قال الراغب : جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية، ومنه استعير جبيت الخراج جباية.
والاجتباء : الجمع على طريق الاصطفاء، وهو هنا مأخوذ من الجباية، وهي جلب الخراج وجمعه لمناسبة النهي عن التفرق في الدين ؛ ولأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء لا يتعدى بإلى إلا باعتبار تضمين معنى الضم والصرف، والمعنى : الله يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتلبه إليه، وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه.
﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ﴾ بالإرشاد والتوفيق وإمداد الالطاف.
﴿مَن يُنِيبُ﴾ يقبل إليه، ويجوز أن يكون الضميرفي كلا الموضعين، فالمعنى : الله يجمع إلى جنابه على طريق الاصطفاء من يشاء من عباده بحسب استعداده ويهدي إليه بالعناية من ينيب، واجتباء الله تعالى العبد تخصصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من النعم، بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء عليهم السلام، ولبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
قال الكاشفي :(يعني هركه از همه اعراض كند وحق راخواهد
٢٩٧
حق سبحانه راء راست بد ونمايد) :
نخست از طالبى از جمله بكذر روبدو آور
كرآن حضرت ندا آردكه اى سر كشته راه اينك
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله الله يجتبي إليه الآية إلى مقامي المجذوب والسالك، فإن المجذوب من الخواص اجتباه الله في الأزل، وسلكه في سلك من يحبهم واصطنعه لنفسه وجذبه عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام الذين سلكهم في سلك من يحبونه موفقين للهداية على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد انتهى.
والإنابة : نتيجة التوبة فإذا صحت التوبة حصلت الإنابة إلى الله تعالى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
قال بعض الكبار : من جاهد في إقامة الدين في مقام الشريعة والطبيعة يهديه الله إلى إقامته في مقام الطريقة والنفس، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام المعرفة والروح، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام الحقيقة والسر، ومن أقامه في هذا المقام، ثم أمره وكمل شأنه في العلم والعرفان والذوق والوجدان والشهود والعيان، وإليه يشير قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت : ٦٩) فعليك بإتيان جميع القرب قدر الاستطاعة في كل زمان وحال، فإن المؤمن لن تخلص له معصية أبداً من غير أن تخالطها طاعة ؛ لأنه مؤمن بها أنها معصية، فإن أضاف إلى هذا التخليط استغفاراً وتوبة، فطاعة على طاعة وقربة على قربة، فيقوى جزاء الطاعة التي خالطها العمل السَّيِّىء، وهو الإيمان بأنها معصية، والإيمان من أقوى القرب وأعظمها عند الله ؛ فإنه الأساس الذي ابتني عليه جميع القرب.
وقال تعالى في الخبر الصحيح :"وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، وكان قربه تعالى من العبد ضعف قرب العبد منه، وعلى كل حال لا يخلو المؤمن من الطاعة والقرب والعمل الصالح يمحو الخطايا، فإن العبد إذا رجع عن السيئة وأناب إلى الله وأصلح عمله أصلح الله شأنه، وعاد عليه نعمه الفائتة.
عن إبراهيم بن أدهم قدس سره : بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره، وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره، فرحمه الله تعالى لذلك ورد عليه يده بما صنع، والوكر بالفتح عشر الطائر.
وبالفارسية :(آشيان).
والتبصبص : التملق وتحريك الذنب.
وفي الآية إشارة إلى أهل الوحدة والرياء والسمعة، فكما أن المشركين بالشرك الجلي يكبر عليهم أمر التوحيد فكذا المشركون بالشرك الخفي يكبر عليهم أمر الوحدة والإخلاص، نسأل الله سبحانه أن يجذبنا إليه بجذبة عنايته، ويشرفنا بخاص هدايته.
﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍا وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.


الصفحة التالية
Icon