وقال الإمام الغزالي رحمه الله : اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف، وإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم والإدراك، ثم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا الله وحده، ومن لطفه خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول للغذاء بالفم، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه، ولو في ظلمات الليل من غير تعليم ومشاهدة، بل تتفتق البيضة عن الفرخ، وقد ألهمه التقاط الحب في الحال، ثم تأخير خلق السن من أول الخلقة إلى وقت إنباته للاستغناء باللبن عن السن، ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن، وإلى أنياب للكسر، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق ورد الطعام إلى المطحن كالمجرفة، فيكون الإنسان في زمرة الجمادات، وأول نعمه عليه أن الله تعالى كرمه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات، ثم عظم شأنه فنقله من عالم النبات إلى عالم الحيوان، فجعله حساساً متحركاً بالإرادة، ثم نقله إلى عالم الإنسان، فجعله ناطقاً، وهي نعمة أخرى أعظم مما سبق، ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد، بسعي خفيف في مدة قصيرة، وهو العمر القليل، ومن لطفه إخراج اللبن الصافي من بين فرث ودم، وإخراج الجواهر النفيسة من الأحجار الصلبة، وإخراج العسل من النحل والابريسم من الدود والدر من الصدف إلى غير ذلك وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله والتلطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء، وعنف ومن غير
٣٠٥
تعصب وخصام.
وأحسن وجوه اللطف فيه : الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والأعمال الصالحة، فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة، ولذلك قال عليه السلام :"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يقل :"صلوا كما قلت لكم" ؛ لأن الفعل أرجح في نفس المقتدي من القول.
وفي المثنوي :
بند فعلى خلق را جذاب تر
كه رسدد رجان هربا كوش كر
ثم إن الأرزاق صورية ومعنوية فالصورية ظاهرة، والمعنوية هي : علم التوحيد والمعارف الإلهية التي تتغذى بها الأرواح يقال : غذاء الطبيعة الأكل والشرب، وغذاء النفس التكلم بما لا يعني، وغذاء القلب : الفكر وغذاء الروح : علم التوحيد من حيث الأفعال والصفات والذات، وسائر المعارف الإلهية مما لا نهاية لها والمنظر الإلهي في الوجود الإنساني هو : القلب، فإذا صلح هو بالتوحيد، والذكر ونور الإيمان والعرفان صلح سائر الأحوال، ومن الله البر واللطف والإحسان والنوال والإفضال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿مِّنَ﴾ :(هركه).
﴿كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ﴾ : الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور من حيث أنها فائدة تحصل بعمل الدنيا.
ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة، والمعنى : من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة.
﴿نَزِدْ لَه فِى حَرْثِهِ﴾ : نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها.
قال الكاشفي :(جنانكه كشت دانه مى افزايد تايكى ازان بسيار ميشود همجنين عمل مؤمن روز بروز افزونى ميكيرد تاحدى يك ذره برابر كوه احد ميشود)، ولم يقل في حقه، وله في الدنيا نصيب مع أن الرزق المقسوم له يصل إليه لا محالة للاستهانة بذلك والإشعار بأنه في جنب ثواب الآخرة ليس بشيء، ولذلك قال سليمان عليه السلام : لتسبيحة خير من ملك سليمان (كفته اندكه بر سليمان عليه السلام مال وملك وعلم عرضه كردندكه زين سه يكى اختيار كن سليمان علم اختيار كرد مال وملك فرا فرونداد) :
دنيا طلى بهرة دنيات دهند
عقبى طلبى هر دوبيك جات دهند
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب، أو لأجل دفع العقاب، فإنه تصح صلاته وأجمعوا على أنها لا تصح ؛ لأن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة.
وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب، فغير مفيد ؛ لأنه يكون عليلاً مريضاً.
والجواب : أن الحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى، فلا يكون العمل أخروياً إلا بأن يطلب فيه رضا الله.
﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ﴾ بأعماله ﴿حَرْثَ الدُّنْيَا﴾، وهو متاعها وطيباتها.


الصفحة التالية
Icon