والمراد : الكافر أو المنافق حيث كانوا مع المؤمنين في المغازي وغرضهم الغنيمة، ودخل فيه أصحاب الأغراض الفاسدة جميعاً.
﴿نُؤْتِه مِنْهَا﴾ ؛ أي : شيئاً منها حسبما قسمنا له لا ما لا يريده ويبتغيه، فمنها متعلق بكائناً المحذوف الواقع صفة للمفعول الثاني.
ويجوز أن يكون كلمة من للتبعيض ؛ أي : بعضها ومآل المعنى واحد دلت الآية على أن طالب الدنيا لا ينال مراده
٣٠٦
من الدنيا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي الحديث :"من كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا، وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له".
﴿وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ : من مزيدة للاستغراق ؛ أي : ما له نصيب ما في الآخرة إذ كانت همته مقصورة على الدنيا، ولكل امرىء ما نوى، فيكون محروماً من ثواب الآخرة بالكلية.
وقال الإمام الراغب : إن الإنسان في دنياه حارث وعمله حرثه، ودنياه محرثه، ووقت الموت وقت حصاده والآخرة بيدره ولا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده.
حكي : أن رجلاً ببلخ أمر عبده أن يزرع حنطة فزرع شعيراً فرآه وقت الحصاد وسأله، فقال العبد : زرعت شعيراً على ظن أن ينبت حنطة، فقال مولاه : يا أحمق، هل رأيت أحداً زرع شعيراً، فحصد حنطة؟ فقال العبد : فكيف تعصي أنت وترجو رحمته وتغتر بالأماني، ولا تعمل العمل الصالح؟ :
ازرباط تن جوبكذشتى دكر معموره نيست
زاد راهى بر نميدارى ازين منزل جرا
وكما أن في البيدر مكيالاً وموازين وأمناء وحفاظاً وشهوداً كذلك في الآخرة مثل ذلك، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزاً بين النقاوة والحطام كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه، وجعل له منه زاد الأبد، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف بل كالدفلى والحنظل في الربيع يرى غض الأوراق حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلاً، وإذا حضر مجتناه في البيدر لم يفد نائلاً، ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زاداً، وادخرت عدة وعتاداً، ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر خبيثة الباطن نهى الله تعالى عن الاغترار بها، فقال :﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيه وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه : ١٣١)، فالقذر قذر وإن كان في ظرف من الذهب، فالعاقل لا يتناوله.
وفي "التأويلات النجمية" : من كان يريد حرث الآخرة بجهده وسعيه نزد له في حرثه بهدايتنا وتوفيق مزيد طاعتنا وصفاء الأحوال في المعارف بعنايتنا اليوم ونزيده في الآخرة قربة ومكانة ورفعة في الدرجات وشفاعة الأصدقاء والقرابات، ومن كان يريد حرث الدنيا مكتفياً به نؤته منها ؛ أي : من آفات حب الدنيا من عمى القلب وبكمه وصممه وسفهه والحجب التي تتولد منها الأخلاق الذميمة النفسانية، والأوصاف الرديئة الشيطانية والصفات السبعية والبهيمية الحيوانية وماله في الآخرة من نصيب ؛ أي : في الأوصاف الروحانية والأخلاق الربانية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي "عرائس البيان" حرث الآخرة مشاهدته ووصاله وقربه وهذا للعارفين وحرث الدنيا الكرامات الظاهرة، ومن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق، وما يريد من حرث الدنيا، فهو معرفة الله ومحبته وخدمته، وإلا فلا يزن الكون عند أهل المعرفة ذرة.
قال بعضهم : في هذه الآية من عملمحبة له لا طلباً للجزاء صغر عنده كل شيء دون الله، ولا يطلب حرث الدنيا ولا حرث الآخرة بل يطلب الله عن الدنيا والآخرة.
وقال سهل : حرث الدنيا القناعة وحرث الآخرة الرضا.
وقال أيضاً : حرث الآخرة القناعة في الدنيا والمغفرة في الآخرة والرضا من الله في كل الأحوال.
وحرث الدنيا قضاء الوطر منها، والجمع منها والافتخار بها، ومن كان بهذه الصفة، فما له في الآخرة من نصيب.
قال
٣٠٧
الشيخ العطار قدس سره :
همجو طفلان منكراندر سرخ وزرد
جون زنان مغرور رنك وبو مكرد
فالدنيا امرأة عجوز ومن افتخر بزينتها وزخارفها، فهو في حكم المرأة، فعلى العاقل تحصيل الجاه الأخروي بالأعمال الصالحة الباقية، فإن الدنيا وما فيها زائلة فانية كما قال لبيد :()
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
والمراد : نعيم الدنيا.


الصفحة التالية
Icon