العامي أبداً منكسر القلب، فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن له طاعة ميسرة ليقبلها الله، فيقول الحق : عبدي إن لم يكن لك طاعة تصلح للبول، فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولها.
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾، لو وسعه عليهم.
﴿لَبَغَوْا فِى الأرْضِ﴾ لطغوا في الأرض وعصوا، فمن العصمة أن لا تجد، أو لظلم بعضهم على بعض ؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة ؛ أي : داع إلى البطر، والأشر، أو البغي بمعنى الكبر، فيكون كناية عن الفساد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس.
وقال بعضهم : لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب لتفرغوا للفساد في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد ونعم ما قيل :()
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
أي : داعية إلى الفساد ومعنى الفراغ عدم الشغل ولزوم البغي على بسط الرزق على الغالب، وإلا فقد يكون الفقير مستكبراً وظالماً، يعني أن البغي مع الفقر أقل ؛ لأن الفقر مؤدٍ إلى الانكسار والتواضع غالباً، ومع الغنى أكثر وأغلب ؛ لأن الغنى مؤدٍ إلى البغي غالباً، فلو عم البسط كل واحد من العباد لغلب البغي، وانقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
قال الكاشفي :(واين در غالبست جه ذى النورين رضي الله عنه مالدارترين مردم بودند وهركز ازايشان بغى وطغيان ظاهر نشد وكفته اندمال دنيا بمثال بارانست كه برتمام زمين بارد واز هرقطعه ازان كياه ديكر رويد) :
باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست
درباغ لا له رويد ودرشوره بوم خس
(وجون اغلب طباع خلق بجانب هوى وهوس مائلست وبرورش صفات سبعى وبهيمى وبرايشان غالب ومال دنيا درين ابواب قوى ترين اسبابست بس اكر حق سبحانه وتعالى روزى بر خلق فراخ كرداند اكثر باغى طاغى كردند).
وكفى بحال فرعون وهامان وقارون ونحوهم عبرة.
قال عليه السلام :"إن أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها".
قال الصائب :
نفس رابد خوبناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان وسير كاهل ميكند مزدور را
﴿وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ﴾ ؛ أي : بتقدير.
يعني :(باندازه)، كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي :(بتقدير أزلى).
وفي "القاموس" : قدر الرزق : قسمه، والقدر قياس الشيء بالشيء.
وفي "بحر العلوم" : يقال : قدره قدراً وقدراً.
وقوله عليه السلام :"فإن غمّ عليكم، فاقدروا" بكسر الدال والضم خطأ.
رواية : أي : فقدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً.
﴿مَّا يَشَآءُ﴾ : أن ينزله مما تقتضيه مشيئته، وهو مفعول ينزل.
﴿إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ﴾ : محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنهم، فيفقر ويغني ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام، عن جبرائيل، عن الله تعالى أنه قال :"من أهان لي ولياً بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الجريثي، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء
٣١٨
ما افترضت عليه، وما زال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً مؤيداً، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله، ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه لئلا يدخله عجب، فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده، ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني بعبادي خبير بصير.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وكان يقول أنس رضي الله عنه : اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا لغنى، فلا تفقرني برحمتك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى قلب الفقير ؛ كأنه إنما لم أبسط أيها الفقير، عليك الدنيا لما كان لي من المعلوم، إني لو وسعت عليك لطغوت، وسعيت في الأرض بالفساد.
ويشير أيضاً إلى وعيد الحريص على الدنيا لينتبه من نوم الغفلة، ويتحقق له أن لو بسط الله له الرزق بحسب الطلب لكان سبب بغيه وطغيانه، وفساد حاله ولتسكن نائرة حرصه على الدنيا، ثم قال بطريق الاستدراك إن لم أوسع عليك الرزق لصلاح حالك لم أمنع عنك الكل، ولكن ينزل بقدر ما يشاء لعلمه بصلاح ذلك، وهو قوله : إنه بعباده خبير بصير.