جون روى دوست هست بصحراجه حاجتست
ولا يمكن الخروج من النفس إلا بالله.
وكان السلف يجهدون في إصلاح نفوسهم وكسر مقتضاهم وقمع هواها.
(حكي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر وعلى ظهره قربة ماء، فقيل له : في ذلك فقال : ليس لي حاجة إلى الماء، وإنما أردت به كسر نفسي لما حصل لها من إطاعة ملوك الأطراف، ومجيء الوفود فكما أنه لا بعث إلى المحشر الأبعد فناء ظاهر الوجود، فكذا لا حشر إلى الله إلا بعد فناء باطنه.
نسأل الله سبحانه أن يوصلنا إلى جنابه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿وَمَآ أَصَـابَكُم﴾ (وهرجه شمارا رسدا اى مؤمنان).
فما شرطية.
وقال بعضهم : موصول مبتدأ دخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط، أي : الذي وصل إليكم أيها الناس.
﴿مِّن مُّصِيبَةٍ﴾، أي : مصيبة كانت من الآلام والأسقام والقحط والخوف، حتى خدش العود وعثرة القدم، واختلاج العرق وغير ذلك من البدن أوفى المال الأهل والعيال، ويدخل فيها الحدود على المعاصي، كما أنه يدخل في قوله : ويعفو عن كثير ما لم يجعل له حد.
فبما كسبت أيديكم} أي فهو بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال مما يزاول بها، فكل نكد لاحق إنما هو بيبب ذنب سابق أقله التقصير.
وفي المثنوي :
هرجه برتو آيد از ظلمات غم
آن ربى باكى وكستاخيست هم
وفي الحديث :"لا يرد القدر إلا بالدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وأن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه قوله لا يرد" إلخ.
لأن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لدفع البلاء وجلب الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح والماء سبب لخروج النباتات من الأرض.
قال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، وأي معصية أقبح من نسيان القرآن.
وتلا الآية :﴿وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾ من الذنوب، فلا يعاقب عليها، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة.
وفي الآية تسلية لقلوب العباد وأهل المصائب يعني : إن إصابتكم مصيبة الذنوب والمعاصي الموجبة للعفو الأخروية الأبدية تداركناها بإصابة المصيبة الدنيوية الفانية لتكون جاء لما صدر منكم من سوء الأدب، وتطهير لما تلوثتم به من المعاصي، ثم إذا كثرت الأسباب من البلايا على عبد وتوالى عليه ذلك فليفكر في أفعاله المذمومة لم حصلت منه، حتى يبلغ جزاء ما يفعله مع عفو الكثير هذا المبلغ، فعند هذا يزداد حزنه وأسفه وخجلته لعلمه بكثرة ذنوبه وعصياته.
وغاية كرم ربه وعفوه وغفرانه.
قيل لأبي سليمان الداراني قدس سره : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم.
قال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم.
وقرأ هذه الآية : فائتين ما قضى عليكم من المصائب
٣٢٢
وإن هربتم من أقطار الأرض كل مهرب}، يعني : إذا أراد الله ابتلاءكم وعقوبتكم، فلا تفوتونه حيثما كنتم، ولا تسبقونه، ولا تقدرون أن تمنعوه من تعذيبكم.
وبالفارسية :(ونيستيد عاجز كنندكان خدا يرا از انفاذ امريا از عذاب كردن مستحق).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
قال أهل اللغة : أعجزته ؛ أي : صيرته عاجزاً.
وأعجزته فيه سبقته قال في تفسير "المناسبات" لما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز، قال : وما أنتم ؛ أي : أجمعون العرب وغيرهم بمعجزين في الأرض لو أريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراده منكم كائناً ما كان.
﴿وَمَا لَكُم﴾ ؛ أي : عند الاجتماع، فكيف عند الانفراد.
﴿مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ : المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة.
﴿مِن وَلِىٍّ﴾ : يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال يحميكم من المصائب.
﴿وَلا نَصِيرٍ﴾ : يدفعها عنكم.
وهذه الآية الكريمة داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المعصية إلى محاسبة النفس ليعرف من أين أتى، فيبادر إلى التوبة عنه لينقذ نفسه من الهلكة، وفائدة ذلك، وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الله الواحد القهار، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى هذه الكمالات البديعة، ومثل هذه التنبيهات تستخرج من العبد ما أودع في طبيعته، وركز في غريزته كغرس وزرع سيق إليه ماء وشمس لاستخراج ما في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية.
قال الإمام الواحدي رحمه الله : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله جعل ذنب المؤمن صنفين صنفاً كفر عنهم بالمصائب وصنفاً عفا عنه في الدنيا، وهو كريم، ولا يرجع في الآخرة في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر، فلا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة.
قال بعضهم : إذا كسب العبد شيئاً من الجرائم، فهو من أسباب القهر، ويكون محجوباً به.
فإذا كان أهلاًتعالى يعاقبه الله في الدنيا ببعض المصائب ويخرجه من ذلك الحجاب، وإلا فيمهله في ضلالته، والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم من الأنبياء وكمل الأولياء والأطفال والمجانين، فلأسباب أخر لا بما كسبت أيديهم ؛ لأنهم معصومون محفوظون.
منها التعريض للأجر العظيم بالصبر عليه.


الصفحة التالية
Icon