قال بعضهم : شوهد منه عليه السلام كرب عند الموت ليحصل بمن شاهده من أهله، ومن غيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم عليه من المشقة، كما قيل : بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال من الكرب الشديد.
وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي قدس سره : البلاء على ثلاثة أضرب :
منها : تعجيل عقوبة للعبد كمثل ما نزل بيوسف عليه السلام من لبثه في السجن بالهم الذي هم به، ومن لبثه بعد مضي المدة في السجن بقوله :﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف : ٤٢).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
ومنها : امتحانه ليبرز ما في ضميره، فيظهر لخلقه درجته أين هو من ربه كمثل ما نزل بأيوب عليه السلام.
قال تعالى :﴿إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ﴾ (ص : ٤٤).
ومنها : كرامته ليزداد عنده قربة وكرامة كمثل ما نزل بحيى بن زكريا عليهما السلام، ولم يعمل خطيئة قط، ولم يهم بها، فذبح ذبحاً، وأهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وقد سأل النبي عليه السلام العافية من كل ذلك حيث قال :"واسأل الله العافية من كل بلية" والعافية أن يكون في كل وجه من هذه الوجوه، إذا حل به شيء من ذلك أن لا يكله إلى نفسه ولا يخذله ؛ أي : يكلؤه ويرعاه في كل من هذه الوجوه هذا
٣٢٣
وجه، والوجه الآخر أن يسأله أن يعافيه من كل شيء فيه شدة، فإن الشدة إنما يحل أكثرها من أجل الذنوب، فكأنه يسأل أن يعافيه من البلاء، ويعفو عنه الذنوب التي من أجلها تحل الشدة بالنفس، فقد قال عز وجل :﴿وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾.
وقال تعالى :﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ﴾ ()، فعلى العاقل أن يسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، فإذا ابتلي بشيء من البلايا صبر عليه ليكون مأجوراً وفكفراً عنه ذنوبه ومصححاً له حاله ومصفى باله ونعم ما قيل :
نرى الناس دهناً في القوارير صافيا
ولم تدر ما يجري على رأس سمسم
وقال الحافظ :
شكر كمال حلاوت بس از رياضت يافت
نخست درشكن تنك ازان مكان كيرد
وما قال :
كويند سنك لعل شود در مقام صبر
آرى شود وليك بخون جكر شوده
نسأل الله العافية.
﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِا وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾.
﴿وَمِنْ ءَايَاتِهِ﴾ : دلائل وحدته تعالى وقدرته وعظمته وحكمته.
﴿الْجَوَارِ﴾ : السفن الجارية، وهي بالياء في الأصل حذفت للكسر الدال عليها.
﴿فِى الْبَحْرِ﴾ :(در دريا).
﴿كَالاعْلَـامِ﴾ جمع علم بفتحتين بمعنى الجبل، وكل مرتفع علم ؛ أي : كالجبال على الإطلاق لا التي عليها النار للاهتداء خاصة.
وبالفارسية :(مانند كوها در عظمت).
فقوله : جوار جمع جارية، بمعنى سائرة صفة للسفن المقدرة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي البحر : متعلق بالجوار، وحال منه إن كانت الجارية جامدة اسماً للسفينة بالغلبة سميت بها لجريها وكالأعلام حال منه على التقديرين.
﴿إِن يَشَأْ﴾ ؛ أي : الله تعالى، وهو شرط جوابه.
قوله :﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ التي تجريها يعني ساكن :(كرداندبادى راكه سبب رفتن كشتى است).
﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ عطف على قوله : يسكن وظل بمعنى صار وركدت السفينة إذا سكنت وثبتت ؛ أي : فيصرن تلكن السفن ثوابت بعدما كانت جواري برياح طيبة.
وحاصل المعنى فيبقين ثوابت على ظهر البحر غير جاريات لا غير متحركات أصلاً.
(وجون آن كشتيها ساكن شوند بسبب سكون باد اهل كشتى در كردا اضطراب افتد).
﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ الذي ذكر من السفن اللاتي يجرين تارة ويركدن تارة أخرى على حسب مشيئة الله تعالى.
﴿لايَـاتٍ﴾ عظيمة في أنفسها كثيرة في العدد دالة على ما ذكر من شؤونه.
﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ بليغ الصبر على احتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
﴿شَكُورٌ﴾ بليغ الشكر له على نعمائه باستعمال كل عضو من الأعضاء فيما خلق له.
وقال الكاشفي :(مر هر صبر كننده رادر كشتى سباس درانده برقت خروج از كشتى).
ويجوز أن يكون مجموع صبار شكور كناية عن الآتي بجميع ما كلف به من الأفعال والتروك.
فالمعنى : لكل مؤمن كامل في خصائل الإيمان وثمراتها ترجع كلها إلى الصبر والشكر، فإن الإيمان نصفه صبر عن المعاصي ونصفه شكر، وهو الإتيان بالواجبات.
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ عطف على يسكن يقال : أوبقه : أهلكه كما في "القاموس"، والإيباق بالفارسية :(هلاك كردن)، كما في "تاج المصادر".


الصفحة التالية
Icon