بيّن أن ثواب الآخرة مع كونه خيراً مما في الدنيا وأبقى يحصل لمن اتصف بصفات وجمع بينهما، وهو الإيمان والتوكل، وما ذكر بعدهما، فالمؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع لهما يتمتعان بها كما قال في "البستان" :
اديم زمين سفرة عام اوست
برين خوان يغماجه دشمن جه دوست
وإذا صار إلى الآخرة كان ما عند الله خيراً للمؤمن، فمن عرف فناء متاع الدنيا، وتيقن أن ما عند الله خير وأبقى.
ترك الدنيا واختار العقبى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حكي : أنه كان لهارون الرشيد ابن في سن ست عشرة، فزهد في الدنيا وتجرد واختار العبادة، فمر يوماً على الرشيد، وحوله وزراؤه، فقالوا : لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك بهذه الهيئة الدنية فدعاه هارون الرشيد.
وقال : يا بني فضحتني بحالك هذه، فلم يجبه الولد، ثم التفت فرأى طائراً على حائط، فقال : أيها الطائر بحق خالقك ألا جئت على يدي، فقعد الطائر على يده، ثم قال : ارجع إلى مكانك، فرجع، ثم دعاه إلى يد أمير المؤمنين، فلم يأت، فقال لأبيه، بل أنت فضحتني بين الأولياء بحبك للدنيا، وقد عزمت على مفارقتك.
ثم خرج من بلده، ولم يأخذ إلا خاتماً ومصحفاً ودخل البصرة، وكان يعمل يوم السبت عمل الطين، ولا يأخذ إلا درهماً ودانقاً للقوت.
قال أبو عامر الواعظ البصري رحمه الله : استأجرته يوماً، فعمل عمل عشرة، وكان يأخذ كفاً من الطين ويضعه على الحائط ويركب الحجارة بعضها على بعض، فقلت : هذه أفعال الأولياء، فإنهم معانون، ثم طلبته يوماً فوجدته مريضاً في خربة، فقال :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
يا صاحبي لا تغترر بتنعم
فالعمر ينفذ والنعيم يزول
وإذا حملت إلى القبور جنازة
فاعلم بأنك بعدها محمول
ثم وصاني بالغسل والتكفين في جبته، فقلت : يا حبيبي ولم لا أكفنك في الجديد، فقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت يا أبا عامر : الثياب تبلى والأعمال تبقى، ثم قال : ادفع هذا المصحف والخاتم إلى الرشيد، وقل له : يقول لك ولدك الغريب لا تدومن على غفلتك.
قال أبو عامر : فلما غسلته وكفنته بماأوصى ودفنته.
دفعت المصحف والخاتم إلى الرشيد وحكيت ما جرى، فبكى وقال : فيم استعملت قرة عيني وقطعة كبدي؟.
قلت : في الطين والحجارة.
قال : استعملته في ذلك، وله اتصال برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : ما عرفته، قال : ثم أنت غسلته، قلت : نعم، فقبل يدي وجعلها على صدره، ثم زار قبره، ثم رأيته في المنام على سرير عظيم في قبة عظيمة، فسألته عن حاله، فقال : صرت إلى رب راضضٍ أعطاني ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
٣٢٦
بشر، وآلى على نفسه الشريفة ؛ أي : قال : والله الذي خلقني لا يخرج عبد من الدنيا كخروجي إلا أكرمه مثل كرامتي.
قال بعضهم : ما ظهر من أفعالك وطاعتك لا يساوي أقل نعمة من نعيم الدنيا من سمع وبصر، وكيف ترجو بها نجاة الآخرة، فالنعيم كله بالفضل لا بالاستحقاق.
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء، وفي يده كوز ماء، وهو يشربه، فقال : عظني، فقال : نعم، فقال : لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشاناً فعل كنت تعطيه قال : نعم فقال : لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه، قال : نعم، فقال : لا تفرح بملك لا يستوي بشربة ماء.
يعني : فشربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، بل كل نفس كذلك، فلو أخذ لحظة، ثم انقطع الهواء عنه مات، ولو حبس في بيت حمام حار، أو بئر عميق مات، فعلى العبد التوغل في العبادة شكراً لنعم الله تعالى، ومن أفضل الطاعات التوكل، وهو ترك التدبير والانخلاع عن الحول والقوة.
قال الجنيد قدس سره : حقيقة التوكل أن يكون العبد مع الله بعد وجوده كما كان قبل وجوده، وهو مقتضى الحال، كما أن الكسب مقتضى العلم.
روي : أن النوري قدس سره تعبد مع عالم في مسجد، وكان النوري يجمع ما نبذه الناس في آخر النهار، ويغسله ويأكل معه فسأله سائل، فأعطاه، فقال له رفيقه : العالم قد قنعنا من الدنيا بما يطرحه الناس وأنت تنفقه أيها العابد لو كان معك علم، فبعد ساعة جاء طعام من غني فأكلا، ثم قال النوري أيها العالم لو كان معك حال، فانظر حال التوكل واليقين والاتكال على الملك المتعال من خصائص توحيد الأفعال الحاصل بإصلاح الطبية في مقام الشريعة :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
باك وصافى شوواز جاه طبيعت بدراى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
﴿فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾.