قلت : هذا الانتصار لا ينافي وصفهم بالغفران، فإن كلاً منهما فضيلة محمودة في موقع نفسه ورزيلة مذمومة في موقع صاحبه، فإن الحلم عن العاجز وعورات الكرام محمود، وعن المتغلب وهفوات اللئام مذموم، فإنه إغراء على البغي، وعليه قول من قال () :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندا في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندا
فالعفو على قسمين :
أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن بغايته فآيات العفو محمولة على هذا القسم، فزال التناقض، فمن أخذ حقه من ظالم غير عاد لأمر الله، فهو مطيع.
وقال ابن زيد وبعض المالكية : جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالميهم، فبدأ بذكرهم في قوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون وصنفاً ينتصرون من ظالميهم.
وقال بعضهم : اوول وصف الخواص.
وهذا وصف العوام.
وقال الكاشفي :(جون برسد ايشانرا ستمى از كافران ايشان از دشمنان خود انصاف بستانند بشمشير يعني از ايشان انتقام كشند زيرا كه انتقام از كفار فرض است وجهاد كردن با ايشان لازم).
وأشارت الآية إلى
٣٣٤
أن الظالم مغلوب قال علي كرم الله وجهه : لا ظفر مع البغي.
هركه ازراه بغى خيرى جست
بس جنانست آن ظفر كه بتافت
﴿وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ﴾ (وباداش كرداريد) ﴿سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ كراداريست مانند آن.
وهو بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير بالإشارة إلى أن البادي هو الذي فعله لنفسه، فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتماً إن خيراف فخير وإن شراً فشر.
وفيه تنبيه على حرمة التعدي وإطلاق السيئة على الثانية مع أنها جزاء مشروع مأذون فيه، وكل مأذون حسن لا سيء، لأنها تسوء من نزلت به، أو للازدواج.
يعني : المشاكلة كما في قوله تعالى :﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾، وعلى هذا فالسيئة مقابل الحسنة بخلافها في الوجه الأول.
والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة.
قال الحسن : إذا قال : لعنك الله أو أخزاك الله، فلك أن تقول : أخزاك الله أو لعنك الله، وإذا شتمك، فلك أن تشتمه بما شتم ما لم يكن فيه حد، كلفظ الزنا، أو كلمة لا تصلح، فلا تجري المقابلة في الكذب والبهتان.
قال في التنوير : قال لآخر : يا زاني، فقال له الآخر : لا بل أنت الزاني حداً بخلاف ما لو قال له مثلاً : يا خبيث، فقال : أنت تكافئا ولو لم يجب، بل رفع الأمر إلى القاضي ليؤدبه جاز.
وعن بعض الفقهاء في هذه الآية.
وقد قيل : إنه الشافعي رحمه الله أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل من غير علمه، واستشهد في ذلك بقول النبي عليه السلام :"لهند زوجة أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدك"، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
كذا ذكره القرطبي في "تفسيره".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿فَمَنْ عَفَا﴾ عن المسيىء إليه جنايته، أي : ترك القصاص.
وقال الكاشفي :(بس هركه عفو كند از ستكار خودكه مسلمان باشد وترك انتقام نمايد ازوى).
﴿وَأَصْلَحَ﴾ بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء.
قال في "الحواشي السعدية" : الفاء للتفريع، أي : إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة، وهي عسرة جداً، فالأولى العفو إلا عزاً.
﴿فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ﴾ عدة مبهمة منبئة عن عظمة شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود ﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ﴾ البادئين بالسيئة والمتعدين في الانتقام، وهو استئناف تعليلي متعلق بقوله وجزاء.
إلخ.
وقوله : فمن عفا إلخ.
اعتراض يعني : إنما شرعت المجازاة وشرطت المساواة، لأنه لا يحب الظالمين وذكر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلّم ورجل من المنافقين يسبه وأبو بكر لم يجبه ورسول الله ساكت يتبسم، فأجابه أبو بكر، فقام النبي عليه السلام، وذهب، فقال أبو بكر : يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً، فلما أجبته قمت، فقال النبي عليه السلام :"إن ملكاً كان يجيبه عنك، فلما أجبته ذهب الملك وجاء الشيطان، وأنا لا أكون في مجلس يكون هناك الشيطان، فنزل فمن عفا وأصلح فأجره على الله".
وفي الحديث :"إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين العافون عن الناس هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق لكل مسلم إذا عفا أن يدخله الجنة".
عفو از كناه سيرث اهل فتوتست
بي حلم وعفو كار فتون نمام نيست
٣٣٥
وعنه عليه السلام :"إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ : أين أهل الفضل، فيقوم ناس وهم قليلون فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة، فيقولون : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة، فمن أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الفضل، فيقولون لهم : ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين".


الصفحة التالية
Icon