وقال بعضهم : من صبر في البلوى من غير شكوى، وعفا بالتجاوز عن الخصم، فلا يبقى لنفسه عليه دعوى، بل يبرأ خصمه من جهة ما عليه من كل دعوى في الدنيا والعقبى أن ذلك لمن عزم الأمور.
وروي : أن أزواج النبي عليه السلام : اجتمعن، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إليه يطلبن منه أن يحبهن كعائشة، فدخلت عليه، وهو مع عائشة في مرطها، وهو بالكسر كساء من صوف أوخز، فقالت : ما قلن رضي الله عنهن، فقال عليه السلام لفاطمة :"أتحبينني" فقالت : نعم.
قال : فأحبيها ؛ أي : عائشة، فرجعت إليهن، فأخبرتهن بما قال لها ؛ أي : لفاطمة، فقلن : لم تصنعي شيئاً، فأردن أن يرسلنها ثانياً، فلم ترض فأرسلن زينب بنت جحش رضي الله عنها، وكانت أزهد أزواجه، حتى قالت عائشة في حقها : لم أر قط امرأة خيراً في الدين من زينب، وكان لها منزلة عنده عليه السلام تضاهي منزلة عائشة، فقالت : إن نساءك يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة، يعني : يسألنك التسوية بينهن وبين عائشة في المحبة، ثم أقبلت على عائشة فشتمتها، فلما استطالت عليها استقبلتها عائشة وعارضتها بالمدافعة حتى قهرتها وأسكتها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي "الكشاف" : إن زينب أسمعت بحضرته، وكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة دونك، فانتصري ؛ أي : تقدمي واقربي فانتقمي من زينب، فأفحمتها، فقال عليه السلام :"إنها ابنة أبي بكر" إشارة إلى كمال فهمها وحسن منطقها.
قال ابن الملك : وفي الحديث دلالة على جواز الانتقام بالحق لكن العفو أفضل لقوله تعالى :﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى : ٤٠).
قال الصائب :
درجنك ميكندلب خاموش كارتيغ
دادن جواب مردم نادان جه لازمست
﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ يخلق فيه الضلالة من الهوى أو بتركه على ما كان عليه من ظلم الناس.
﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِه وَتَرَى الظَّـالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن﴾.
﴿فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِهِ﴾ من ناصر يتولاه من بعد خذلانه تعالى إياه.
وبالفارسية :(وهركرا كمراه سازد خداى تعالى بس نيست مراورا هيج دوستى كه كار سازى كنديس از فرو كذشتن خداى تعالى مراورا).
﴿وَتَرَى الظَّـالِمِينَ﴾ : الخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية البصرية والظالمون المشركون والعاصون.
﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ ؛ أي : حين يرونه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق.
﴿يَقُولُونَ﴾.
٣٣٧
إلخ.
في موضع الحال من الظالمين ؛ لأن الرؤية بصرية.
﴿هَلْ﴾ :(آيا هست).
﴿إِلَى مَرَدٍّ﴾ : بمعنى الرد ؛ أي : الرجعة إلى الدنيا.
﴿مِّن سَبِيلٍ﴾ :(هيج راهى يا جادة تابرويم وتدارك ما فات كنيم ازايمان وعمال صالح).
وقد سبق بيانه في قوله في ﴿حم﴾ المؤمن، فهل إلى خروج من سبيل.
﴿وَتَرَاـاهُمْ﴾ تبصرهم أيها الرائي حال كونهم.
﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ ؛ أي : على النار المدلول عليها بالعذاب.
وقد سبق معنى العرض في ﴿حم﴾ المؤمن عند قوله : النار يعرضون عليها.
﴿خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ من للتعليل متعلق بخاشعين ؛ أي : حال كونهم خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل والهوان.
وقد يعلق من الذل بينظرون ويوقف على خاشعين.
﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ﴾ : الطرف مصدر في الأصل، ولهذا لم يجمع، وهو تحريك الجفن وعبر به عن النظر إذ كان تحريك الجفن يلازم النظر، كما في "المفردات".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
والمعنى : حال كونهم يبتدىء نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف.
يعني : يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها، وذلة في أنفسهم، كما ينظرون إلى المقتول إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحاب.
وقال الكلبي : ينظرون بأبصار قلوبهم، ولا ينظرون بأبصار ظواهرهم ؛ لأنهم يسحبون على وجوههم، أو لأنهم يحشرون عمياً، فينظرون كنظر الأعمى إذا خاف حساً.
يقول الفقير : لا حاجة إلى حمل الآية على ما ذكر من الوجهين ؛ لأن لهم يوم القيامة أحوالاً شتى بحسب المواطن، فكل من النظر والسحب والحشر أعمى ثابت صحيح.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا تتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة لتقبل الصلاح بعلاج الرياضات الشرعية والمجاهدات الطريقية، وتخشع إذ لم تخشع في الدنيا من القهار، فلا تنفعها ندامة، ولا تسمع منها دعوة، ولها نظر من طرف خفي من خجالة المؤمنين، إذ يعيرونها بما ذكروها، فلم تسمع، وهي نفوس الظالمين.
كما قال السعدي :
تراخود بماند سراز تنك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادرز كار بدان شرم دار
كه درروى نيكان شوى سرمسار