﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن﴾ بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، فهو تمثيل له بحال الملك المحتجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب يسمع صوته، ولا يرى شخصه وإلا فالله تعالى منزه عن الاستتار بالحجاب الذي هو من خواص الأجسام، فالحجاب يرجع إلى المستمع لا إلى الله تعالى المتكلم.
وذلك كما كلم الله تعالى موسى في طوى والطور.
ولذا سمي كليم الله ؛ لأنه سمع صوتاً دالاً على كلام الله من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق، بل تولى الله تخليقه إكراماً له، وغيره يسمعون صوتاً مكتسباً للعباد، فيفهمون به كلام الله هذا مذهب إمامنا أبي منصور.
ذكره في كتاب "التأويلات".
وذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن موسى سمع كلام الله من غير واسطة صوت أو قراءة، وإلى هذا ذهب ابن فورك من الإشعارية.
قال في "كشف الأسرار" كلمه وبينهما حجاب من نار.
قال الكاشفي :(يا موسى سخن كفت واودر بس حجاب نور بود در موضح آورده كه خداى تعالى بابيغمبر عليه السلام سخن كفت از وراى حجابين يعني حضرت رسالت بناه عليه السلام وراى دو حجاب بودكه سخن خداى تعالى شنيد حجابى از زر سرخ وحجابى از مروا ريد سفيد مسيرة ميان هردو حجاب هفتاد سال راه بود).
يقول الفقير : هذا من غوامض العلوم، فإن نبينا عليه السلام أعلى كعباً من موسى عليه السلام، فما معنى : أن الله تعالى كلم موسى من وراء حجاب واحد وكلم نبينا من وراء حجابين، وإن حصل فرق بين حجاب وحجاب.
ولعل المراد بالحجابين : حجاب الياقوتة الحمراء الذي يلي جانب الخلق وحجاب الدرة البيضاء الذي يلي عالم الأمر، وكلاهما عبادة عن الروح المحمدي.
والحقيقة الأحمدية بكون مسافة ما بين الحجابين مسيرة سبعين ألف حجاب بين الرب والعبد، فمعنى :
٣٤٤
أن النبي عليه السلام سمع كلام الله من وراء هذين الحجابين أن الله تعالى كلمه وبينهما الحقيقة الجامعة البرزخية، وليس ذلك بحجاب في الحقيقة، كما أن المرآة ليست بحجاب للناظر، وكذا القناع بالنسبة إلى العروس، فافهم جداً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا﴾ ؛ أي : ملكاً من الملائكة إما جبريل أو غيره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم ير جبرائيل إلا أربعة من الأنبياء : موسى وعيسى وزكريا ومحمد عليه السلام.
قال في "عين المعاني" : عسى أنه أراد برؤيته كما هو، وإلا فهو سفير الوحي.
انتهى.
﴿فَيُوحِىَ﴾ ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري ﴿بِإِذْنِهِ﴾ ؛ أي : بأمره تعالى وتيسيره.
﴿مَّا يَشَآءُ﴾ أن يوحيه إليه، وهذا هو الذي جرى بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام في عامة الأوقات من الكلام، فيكون إشارة التكلم بواسطة الملك.
روي : أن النبي عليه السلام قال :"من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون بذلك نبياً ومنهم من ينفث في أذنه وقلبه، فيكون بذلك نبياً، وإن جبرائيل يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه".
وعن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال :"أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال.
وأحياناً يتمثل الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول".
قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً".
والتفصد والانفصاد :(فرود ويدن).
﴿إِنَّه عَلِىٌّ﴾ متعال عن صفات المخلوقين لا يأتي جريان المفاوضة بينه تعالى، وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة.
﴿حَكِيمٌ﴾ يجري أفعاله على سنن الحكمة، فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاماً، أو خطاباً.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن البشر مهما كان محجوباً بصفات البشرية موصوفاً بأوصاف الخلقية الظلمانية الإنسانية لايكون مستعداً أن يكلمه الله إلا بالوحي أو بالإلهام في النوم واليقظة، أو من وراء حجاب بالكلام الصريح، أو يرسل رسولاً من الملائكة، فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي بعلو القدم لا يجانسه محدث حكيم فيما يساعد البشر بإفناء أنانيته بهويته، فإذا أفنيت البشرية وارتفعت الحجب وتبدلت كينونته بكينونة الحق، حتى به يسمع وبه يبصر وبه ينطق، فيكلمه الله تعالى شفاهاً وبه يسمع العبد كلامه كفاحاً، كما كان حال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سر فأوحى إلى عبده ما أوحى.
انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥


الصفحة التالية
Icon