﴿إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا﴾ إن قلت : هذا يدل على القرآن مجعول والمجعول مخلوق.
وقد قال عليه السلام :"القرآن كلام الله غير مخلوق".
قلت : المراد بالجعل هنا تصيير الشيء على حالة دون حالة.
فالمعنى : أنا صيرنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً بإنزاله بلغة العرب ولسانها، ولم نصيره أعجمياً بإنزاله بلغة العجم مع كونه كلامنا وصفتنا قائمة بذاتنا عرية عن كسوة العربية منزهة عنها وعن توابعها.
﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ كلمة لعل مستعارة لمعنى كي، وهو التعليل وسببية ما قبلها لما بعدها لكون حقيقة الترجي والتوقع ممتنعة في حقه تعالى لكونها مختصة بمن لا يعلم عواقب الأمور.
وحاصل معناها : الدلالة على أن الملابسة بالأول لأجل إرادة الثاني من شبه الإرادة بالترجي.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
فقوله : لعلكم تعقلون في موضع النصب على المفعول له، وفعل الله تعالى، وإن كان لا يعلل بالغرض لكن فيه مصلحة جليلة وعاقبة حميدة، فهي كلمة علة عقلاً وكلمة مصلحة شرعاً مع أن منع التعليل بالغرض العائد إلى العباد بعيد عن الصواب جداً، لمخالفته كثيراً من النصوص.
والمعنى : لكي تفهموا القرآن العربي وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق وتقفوا على ما تضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية إذ لو
٣٤٩
أنزلناه بغير لغة العرب ما فهمتموه، فقوله : إنا جعلناه قرآناً عربياً جواب للقسم، لكن لا على أن مرجع التأكيد جعله كذلك، كما قيل : بل ما هو غايته التي يعرب عنها قوله تعالى :﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، فإنها المحتاجة للتأكيد لكونها منبئة عن الاعتناء بأمرهم وإتمام النعمة عليهم وإزاحة أعذارهم.
كذا في "الإرشاد".
وقال بعضهم : أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، فالقسم والمقسم عليه من بدائع الإقسام لكونهما من واحد، فالمقسم به ذات القرآن العظيم، والمقسم عليه وصفه، وهو جعله قرآناً عربياً، فتغايرا ؛ فكأنه قيل : والقرآن المبين أنه ليس بمجرد كلام مفترى على الله وأساطير، بل هو الذي تولينا إنزاله على لغة العرب، فهذا هو المراد بكونه جواباً لا مجرد كونه عربياً إذ لا يشك فيه وإنما جعله مقسماً به إشارة إلى أنه ليس عنده شيء أعظم قدراً وأرفع منزلة منه حتى يقسم به، فإن المحب لا يؤثر على محبوبه شيئاً، فأقسم به، ليكون قسمه في غاية الوكادة.
وكذا لا أهم من وصفه، فيقسم عليه.
﴿إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ﴾.
﴿وَإِنَّهُ﴾ ؛ أي : ذلك الكتاب.
﴿فِى أُمِّ الْكِتَـابِ﴾ ؛ أي : في اللوح المحفوظ، فإنه أصل الكتاب ؛ أي : جنس الكتب السماوية، فإن جميعها مثبتة فيه على ما هي عليه عند الأنبياء ومأخوذة مستنسخة منه.
قال الراغب : قوله في أم الكتاب ؛ أي : في اللوح المحفوظ.
وذلك لكون كل منسوباً إليه ومتولداً فيه، والكتاب اسم للصحيفة مع المكتوب فيها.
﴿لَدَيْنَا﴾ ؛ أي : عندنا.
﴿لَعَلِىٌّ﴾ رفيع القدر بين الكتب شريف.
﴿حَكِيمٌ﴾ ذو حكمة بالغة أو محكم لا يتطرق إليه نسخ بكتاب آخر، ولا تبديل، وهما ؛ أي : علي وحكيم خبر إن ؛ لأن وما بينهما بيان للمحل الحكم ؛ كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب الذي هو أشرف مكان وأعزه لدينا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب.
وهذا كما قال في "الجلالين" يريد أنه يثبت عند الله في اللوح المحفوظ بهذه الصفة.
واعلم أن اللوح المحفوظ خلقه الله تعالى من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه كما بين السماء والأرض ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق بكل نظره ويحيي ويميت، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.
وفي الخبر أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ : كل حرف منها بقدر جبل قاف وإن تحت كل حرف معاني لا يحيط بها إلا الله تعالى، ولذا لم يقم لفظ مقام لفظه ولا حرف مقام حرفه، فهو معجز من حيث اللفظ.
والمعنى : ولما كان القلب الإنساني هو اللوح الحقيقي المعنوي نزل على قلبه عليه السلام القرآن، واستقر فيه إلى الأبد دنيا وآخرة، وكذا نزل من حيث المعنى على قلوب ورثته عليه السلام كما أخبر عنه أبو يزيد قدس سره، وكما أن الله تعالى ينظر كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستين نظرة كذلك ينظر في لوح القلب ذلك العدد، فيمحو ما يشاء ويثبت.
والمراد باليوم هو اليوم الآتي المنبسط عند الله إلى ألف سنة وأشير إليها بعدد أيام السنة، فافهم جداً، فإن كان القلب لوح الله تعالى، فينبغي للعبد أن يمحو عنه آثار الغير ويزينه بما يليق به، فإنه المنظر الإلهي.


الصفحة التالية
Icon