﴿إِلا الَّذِى فَطَرَنِى﴾ استثناء منقطع إن كانوا عبدة الأصنام ؛ أي : لكن الذي خلقني لا أبرأ منه، والفطر ابتداء خلق من غير مثال من قولهم : فطرت البئر إذا أنشأت حفرها من غير أصل سابق، أو متصل على أن ما نعم أولى العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو صفة على أن ما موصوفة ؛ أي : إني بريء من آلهة، تعبدونها غير الذي فطرني فإن إلا بمعنى غير لا يوسف بها إلا جمع منكور غير محصور وهو هنا آلهة كما هو مذهب ابن الحاجب.
﴿فَإِنَّه سَيَهْدِينِ﴾ ؛ أي : سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن، ولذا أورد كلمة التسويف هنا بعدما قال في الشعراء، فهو يهدين بلا تسويف.
والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ؛ أي : دوام الهداية حالاً واستقبالاً.
﴿وَجَعَلَهَا﴾ ؛ أي : جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي كان ما تكلم به من قوله : إنني إلى سيهدين عبارة عنها، يعني : أن البراءة من كل معبود سوى الله توحيد للمعبود بالحق، وقول بلا إله إلا الله.
﴿كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ﴾ ؛ أي : في ذريته حيث وصاهم بها كما نطق به قوله تعالى :﴿وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِامُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ (البقرة : ١٣٢).
الآية.
فالقول المذكور بعد الخروج من النار، وهذا الجعل بعد حصول الأولاد الكبار، فلا يزال فيهم نسلاً بعد نسل من يوحد الله ويدعو إلى توحيده وتفريده إلى قيام الساعة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
قال الراغب : العقب مؤخر الرجل واستعير للولد وولد الولد.
انتهى.
فعقب الرجل ولده الذكور والإناث وأولادهم وما قيل : من أن عقب الرجل وأولاده الذكور، كما وقع في أجناس الناطفي، أو أولاده البنات، كما نقل عن بعض الفقهاء، فكلا القولين ضعيف جداً مخالف للغة لا يوثق به.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ : علة للجعل والضمير للعقب وإسناد الرجوع إليهم من وصف الكل بحال الأكثر والترجي راجع إلى إبراهيم عليه السلام ؛ أي : جعلها باقية في عقبه وخلفه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد.
قال بعضهم في سبب
٣٦٣
تكريم وجه علي بن أبي طالب، بأن يقال : كرم الله وجه إنه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد بن هاشم أنها كانت إذا أرادت أن تسجد للصنم، وهو في بطنها يمنعها من ذلك ونظر فيه البعض بأن قال عبادة قريش صنماً وإن كانت مشهورة عند الناس، لكن الصواب خلافه لقول إبراهيم عليه السلام :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ (إبراهيم : ٣٥)، وقول الله في حقه ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ﴾ (الزخرف : ٢٨).
وجوابه في سورة إبراهيم، ﴿فَارْجِعِ﴾.
وفي الآية إشارة إلى أن كل من ادعى معرفة الله، والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء وإرشاد الله من الفلاسفة والبراهمة والرهابنة، فدعواه فاسد ومتمناه كاسد.
قال الشيخ سعدي :
درين بحر جز مرد راعى نرفت
كم آن شدكه دمبال داعى نرفت
كسانى كزين راه بركشته اند
برفتند وبسيار سركشته اند
خلاف بيمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
وإشارة أخرى أن بعد أهل العناية يهتدون إلى معرفة الله بإرشاد الله، وإن لم يبلغه دعوة نبي، أو إرشاد ولي أو نصح ناصح ولا يتقيد بتقليد آبائه، وأهل بلده من أهل الضلالة والأهواء والبدع، ولا تؤثر فيه شبههم ودلائلهم المعقولة المشوبة بالوهم والخيال، ولا يخاف في الله لومة لائم، كما كان حال إبراهيم عليه السلام كذلك، فإن الله تعالى أرشده من غير أن يبلغه دعوة نبي، أو إرشاد ولي، أو نصح ناصح، فلما آتاه الله رشده دعا قومه إلى التوحيد ووصى به بنيه لعلهم يرجعون عن الشرك.
وفيه إشارة إلى أن الرجوع إلى الله على قدمي اعتقاد أهل السنة والجماعة والأعمال الصالحة على قانون المتابعة بنور هذه الكلمة الباقية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ﴾ : إضراب عن محذوف ؛ أي : فلم يحصل ما رجاه، بل متعت منهم هؤلاء المعاصرين للرسول من أهل مكة.
﴿وَءَابَآءَهُمْ﴾ بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات وشغلوا به عن كلمة التوحيد.
﴿حَتَّى جَآءَهُمُ﴾ ؛ أي : هؤلاء ﴿الْحَقُّ﴾ ؛ أي : القرآن.
﴿وَرَسُولٌ﴾ ؛ أي : رسول ﴿مُّبِينٌ﴾ : ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة، أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج، فحتى ليست غاية للتمتع، بل لما تسبب عنه من الاغترار المذكور وما يليه.
﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى﴾.


الصفحة التالية
Icon