﴿وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ﴾ لينبههم عما هم فيه من الغفلة، ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا كفراً وعتواً وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به حيث ﴿قَالُوا هَـاذَا﴾ الحق والقرآن ﴿سِحْرٌ﴾، وهو إراءة الباطل في صورة الحق، وبالفارسية :(جادويى).
﴿وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ﴾ :(بارر نداريم كه آن من عند الله است).
فسموا القرآن سحراً وكفروا به.
وفيه إشارة إلى أرباب الدين وأهل الحق، فإن أهل الأهواء والبدع والضلالة ينظرون إلى الحق وأهله كمن ينظر إلى السحر وساحره وينطقون بكلمة الكفر بلسان الحال، وإن كانوا يمسكون بلسان المقال.
واعلم أن الكفر والتكذيب والإنكار من أوصاف أهل الجحيم ؛ لأنه كما أن الجحيم مظهر قهر الله تعالى، فكذا الأوصاف المذكورة من أمارات قهر الله تعالى، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل النار، وأن الإيمان والتصديق والإقرار من أوصاف أهل الجنة ؛ لأنه كما أن الجنة مظهر لطف الله تعالى، فكذا الأوصاف المذكورة من آثار لطف الله تعالى، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل الجنة، ولكن التصديق على أقسام :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
فقسم باللسان،
٣٦٤
وهو الذي يشترك فيه المطيع والعاصي والخواص والعوام، وهو مفيد في الآخرة إذ لا يخلد صاحبه في النار.
وقسم بالأركان والطاعات والأذكار وأسباب اليقين، فذلك تصديق الأنبياء والأولياء والصديقين والصالحين.
وبه يسلم صاحبه من الآفات مطلقاً.
وفي الحديث :"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال :"من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
أراد عليه السلام :"من أطاعني وصدقني فيما جئت به من الاعتقاد والعلم والعمل، ومن عصاني في ذلك، فيكون المراد بالأمة، أمة الدعوة والإجابة جميعاً.
استثنى منه أمة الدعوة.
وذلك فإن الأمة تطلق تارة على كافة الناس، وهم أمة الدعوة، وأخرى على المؤمنين، وهم أمة الإجابة، فأمة الإجابة أمة دعوة، ولا ينعكس كلياً، فاحذر الإباء والزم البقاء تنعم في جنة المأوى، فإن طريق النجاة هي الطاعات والأعمال الصالحات، فمن غرته الأماني واعتاد أملاً طويلاً فقد خسر خسراناً مبيناً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا كما أمر في كتابه المبين، آمين.
﴿وَقَالُوا﴾ أهل مكة ﴿لَوْلا﴾ حرف تحضيض ﴿نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ من إحدى القريتين مكة والطائف.
﴿عَظِيمٍ﴾ بالمال والجاه كالوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فهو على نهج قوله تعالى :﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ (الرحمن : ٢٢) ؛ أي : من أحدهما، وذلك لأن من للابتداء وكون الرجل الواحد من القريتين بعيد، فقدر المضاف، ومنهم من لم يقدر مضافاً.
وقال : أراد على رجل كائن من القريتين كلتيهما.
والمراد به عروة المذكور ؛ لأنه كان يسكن مكة والطائف جميعاً، وكان له في مكة أموال يتجر بها، وكان له في الطائف بساتين وضياع، فكان يتردد إليهما، فصار كأنه من أهلهما.
يقول الفقير : هنا وجه خفي، وهو أن النسبة إلى القريتين قد تكون بالمهاجرة من إحداهما إلى الأخرى، كما يقال : المكي المدني والمصري الشامي، وذلك بعد الإقامة في إحداهما أربع سنين صرح بذلك أهل أصول الحديث، ثم إنهم لم يتفوهوا بهذه الكلمة العظيمة حسداً على نزوله على الرسول عليه السلام دون من ذكر من عظمائهم من اعترافهم بقرآنيته بل استدلالاً على عدمها بمعنى أنه لو كان قرآناً لنزل على أحد هذين الرجلين بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل لا يليق به إلا من له جلاله من حيث المال والجاه، ولم يدروا أن العظيم من عظمة الله وأعلى قدره في الدارين لا من عظمة الناس، إذ رب عظيم عندهم حقير عند الله.
وبالعكس وإن الله يختص برحمته من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وفي قولهم : عظيم تعظيم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعظم شأنه وفخم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ إنكار فيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم.
والمراد بالرحمة النبوة.
يعني : أبيدهم مفاتيح الرسالة والنبوة، فيضعونها حيث شاؤوا، يعني : تابر هركه خواهند در نبوت بكشايند.
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ﴾ ؛ أي : أسباب معيشتهم.
والمعيشة ما يعيش به الإنسان ويتغذى به ويجعله سبباً في قوام بنيته إذ العيش الحياة المختصة بالحيوان، وهو يعم الحلال والحرام عند أهل السنة والجماعة.
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ﴾ : قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح، ولم نفوض أمرنا إليهم علماً منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية، كما دل عليه تقديم المسند إليه، وهو نحن
٣٦٥
إذ هو للاختصاص.


الصفحة التالية
Icon