والحاصل : نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم، وهو أدنى من الرسالة، فلم نترك اختيارها إليهم، وإلا لضاعوا وهلكوا فما ظنهم في أمر الدين ؛ أي : فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل وأعظم، وهو الرسالة.
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾ في الرزق وسائر مبادي المعاش.
﴿دَرَجَـاتٍ﴾ نصب بنزع الخافض ؛ أي : إلى درجات متفاوتة بحسب القرب والبعد، حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف وقوي وفقير وغني وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم.
﴿لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ من التسخير والاستخدام، ولكون المراد هنا الاستخدام دون الهزؤ ؛ لأنه لا يليق التعليل به أجمع القراء على ضم السين في الرواية المشهورة عنهم، فما كان من التسخير، فهو مضموم، وما كان من الهزؤ، فهو مكسور.
والمعنى : ليستعمل بعضهم بعضاً في مصالحهم، ويسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله، وهذا بعمله، فيتم قوام العالم لا لكمال في الموسع ولا لنقض في المقتر.
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ﴾ ؛ أي : النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين.
﴿خَيْرٌ﴾ لأهلها.
﴿مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ؛ أي : بجميع هؤلاء الكفار من حطام الدنيا الدنية الفانية، والعظيم من رزق من تلك الرحمة العظيمة لا مما يجمعون من الدنيء الحقير يظنون أن العظمة به.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يعطي لفقير من فقراء البلد لا يؤبه به ما لا يعطي لعلمائه وأفاضله من حقائق القرآن وأسراره، فإن قسمة الولاية بيده كقسمة النبوة، فما لا يحصل بالدرس قد يحصل بالوهب، وكما أن في صورة المال تسخير بعضهم لبعض لأجل الغنى، فكذا في صورة العالم والولاية تسخير بعضهم لبعض للتربية وكل من العلم والولاية والنبوة خير من الدنيا وما فيها من الأموال والأرزاق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
قال بعضهم : المعيشة أنواع إيمان وصدق وإرادة وعلم وخدمة وتوبة وإنابة ومحبة وشوق وعشق ومعرفة وتوحيد وفراسة وكرامة ووارد وقناعة وتوكل ورضا وتسليم.
فتفاوت أصحاب هذه المقامات، كما تتفاوت أرباب الرزق وكذلك يتفاوتون في المعرفة مثلاً.
فإن بعضهم أعلى في المعرفة من بعض، وإن اشتركوا في نفس المعرفة وقس عليه صاحب المحبة ونحوها، هذا للمقلين إليه وللمدبرين كمن يأكل النعم اللذيذة والحشرات المضرة.
وقال بعضهم : باينبينهم بمعرفة كيد النفس ووسوسة الشيطان، فالأعرف أفضل من العارف وطريقه لذكر.
قال سهل : الذكرخير من كثرة الأعمال ؛ أي : إذا كان خالصاً.
(ودر حقائق سلمى اورده كه تفاوت درجات باخلاق حسنة است خوى هركه نيكوتر درجة او بلندتر.
يكى خوب كردار وخوش خوى بود.
كه بدسيرتا نرا نكو كوى بود.
بخوابش كسى ديدجون در كذشت.
كه بارى حكايت كن از سر كذشت.
دهانى بخنده جو كل باز كرد.
جو بلبل بصوت خوش آغار كرد.
كه بر من نكردند سختى بسى.
كه من سخت نكرفتمى بركسى).
قالت الفلاسفة : إن الكمالات البشرية مشروطة بالاستعداد والمذهب الحق أن جميع المقامات كالنبوة والولاية.
وغيرهما وكذا السلطنة والوزارة ونحوهما اختصاصية عطائية غير كسبية ولا مشروطة بشيء من الاستعداد ونحوه.
فإن الاستعداد أيضاً عطاء من الله تعالى كما قيل :
داد حق راقابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد حق
وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم
٣٦٦
المحجوب، فيظن أنه كسبي بالتعمل.
وحاصل بالاستعداد، وليس كذلك في الحقيقة، فالله تعالى هو الولي يتولى أمر عباده، فيفعل ما تقتضيه حكمته، ولا دخل لشيء من ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن رفعهم إلى درجات الكمال بحرمة أكامل الرجال.
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـاُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
بتقدير المضاف مثل كراهة أن يكون الناس، فإن لولا لانتفاء الثاني لوجود الأول، ولا تحقق مدلول لولا ظاهراً.


الصفحة التالية
Icon