قال في "شرح الترغيب" : فإن قيل : ما الحكمة في اختيار الله تعالى لنبيه الفقر، واختياره إياه لنفسه ؛ أي : مع قوله : لو شئت لدعوت ربي عز وجل، فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر.
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه لو كان غنياً لقصده قوم طمعاً في الدنيا، فاختار الله له الفقر حتى أن كل من قصده علم الخلائق أنه قصده طلباً للعقبى.
والثاني : ما قيل : إن الله اختار الفقر له نظراً القلوب الفقراء حتى يتسلى الفقير بفقره، كما يتسلى الغني بماله.
الثالث : ما قيل : إن فقره دليل على هوان الدنيا على الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلّم لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
انتهى.
ومعنى : هوان الدنيا على الله أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال، وأبغضها وأبغض أهلها، ولم يرض العاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها.
قال الصائب :
از رباط تن جوبكذشتى ذكر معمورة نيست
زادر هى برنمى دارى ازين منزل جرا
تداركنا الله وإياكم بفضله.
﴿وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ﴾ من شرطية.
وبالفارسية بمعنى :(وهركه).
ويعش بضم الشين من عشا يعشو عشاً إذا تعاشى بلا آفة، وتعامى ؛ أي : نظر نظر العشا ولا آفة في بصره.
ويقال : عشي يعشى كرضي إذا كان في بصره آفة مخلة بالرؤية.
قال الراغب : العشا بالفتح والقصر ظلمة تعرض في العين.
يقال رجل أعشى وامرأة عشواء.
وفي "القاموس" : العشا : سوء البصر
٣٦٨
بالليل والنهار وخبطه خبط عشواء ركبه على غير بصيرة من الناقة العشواء التي لا تبصر أمامها.
والمراد بالذكر القرآن وإضافته إلى الرحمن إشارة إلى كونه رحمة عامة من الله، أو هو مصدر مضاف إلى مفعول.
والمعنى : ومن يتعامى ويعرض عن القرآن، أو عن أن يذكر الرحمن.
وبالفارسية :(وهركه جشم بوشد از قرآن ويا ازياد كردن خداى).
لفرط اشتغاله بزهرة الحياة الدنيا وانهماكه في الحظوظ والشهوات الفانية.
﴿نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا﴾.
نسلطه عليه ونضمه إليه ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض، وهو القشر إلا على اليابس.
﴿فَهُوَ﴾ ؛ أي : ذلك الشيطان.
﴿لَهُ﴾ ؛ أي : لذلك العاشي والمعرض.
﴿قَرِينٌ﴾ بالفارسية :(همنشين ودمساز).
ومصاحب لا يفارقه، ولا يزال يوسوسه ويغويه ويزين له العمى على الهدى والقبيح بدل الحسن.
قال عليه السلام :"إذا أراد الله بعبد شراً قيض له شيطاناً قبل موته بسنة، فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده حتى لا يعمل به، ولا يرى قبيحاً إلا حسنه حتى يعمل به" وينبغي أن يكون هذا الشيطان غير قرينه الجني الكافر، وإلا فكل أحد له شيطان هو قرينة، كما قال صلى الله عليه وسلّم "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينة من الجن وقرينه من الملائكة قالوا : وإياك يا رسول الله، قال :"وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" (در نفحات الأنس آوردكه شيخ أبو القاسم مصري قدس سره بايكى از مؤمنان جن دوستى وقتى در مسجدي نشسته بود جنى كفت اي شيخ اين مردم راجه كونه مى بينى كفت بعضى را در خواب وبعضى خواب كفت آنجه برسر هاى ايشانست مى بينى كفتم نه جشمهاى مرا بماليد ديدم كه برسر هركسى بعضى رابالها بجشم فرو كذاشته وبعضى راكاهى فرو كذاريد وكاهى بالامى برد كفتم اين جيست كفت نشنيده كه).
﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ﴾ :(اينها شياطين اندبر سرهاى ايشان نشسته وبر هريكى بقدر غفلت وى استيلا يافته، دريغ ودردكه بانفس بد قرين شده ايم.
وزين معامله باد بو همنشين شده ايم.
بباركاه فلك بوده ايم رشك ملك، زجور نفس جفابيشه اينجنين شدع ايم).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
وفيه إشارة إلى أن من دوام على ذكر الرحمن لم يقربه الشيطان بحال.
قال بعضهم : من نسي الله ترك مراقبته ولم يستح منه، أو أقبل على شيء من حظوظ نفسه قيض الله له شيطاناً يوسوس له في جميع أنفاسه، ويغري نفسه إلى طلب هواها حتى يتسلط على عقله وعلمه، وبيانه وهذا كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : الشهوة والغضب يغلبان العقل والعلم والبيان، وهذا جزاء من أعرض عن متابعة القرآن، ومتابعة السنة.


الصفحة التالية
Icon