وقال بعضهم : من أعرض عن الله بالإقبال على الدنيا يقيض له شيطاناً، وإن أصعب الشياطين نفسك الأمارة بالسوء، فهو له ملازم لا يفارقه في الدنيا والآخرة، فهذا جزاء من ترك المجالسة مع الله بالإعراض عن الذكر، فإنه يقول :"أنا جليس من ذكرني"، فمن لم يذكر، ولم يعرف قدر خلوته مع الله وحاد عن ذكره، واختلف إلى خواطر النفسانية الشيطانية سلط الله عليه من يشغله عن الله، وإذا اشتغل العبد في خلوته بذكر ربه بنفي ما سوى الله، وإثبات الحق بلا إله إلا الله، فإذا تعرض له من يشغله عن ربه صرفته سطوات الإلهية عنه، ومن لم يعرف قدر فراغ قلبه، واتبع شهوته،
٣٦٩
وفتح بابها على نفسه بقي في يد هواه أسيراً غالباً عليه أوصاف شيطنة النفس.
روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس مثل من أمثال العرب إلا وأصله في كتاب الله.
قيل له : من أين قول الناس : أعط أخاك ثمرة، فإن أبى فجمرة، قال من قوله : ومن يعش الآية.
﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ؛ أي : الشياطين الذين قيض كل واحد منهم لواحد ممن يعشو.
﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ ؛ أي : يمنعون قرناءهم فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها.
﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ عن الطريق المستبين الذي من حقه أن يسبل، وهو الذي يدعو إليه القرآن.
﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ ؛ أي : والحال أن العاشين يظنون.
﴿إِنَّهُمْ﴾ ؛ أي : الشياطين.
﴿مُّهْتَدُونَ﴾ ؛ أي : السبيل المستقيم، وإلا لما اتبعوهم، أو يحسبون أن أنفسهم مهتدون ؛ لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
﴿حَتَّى إِذَا جَآءَنَا﴾ حتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية، ومع هذا غاية لما قبلها، فإن الابتدائية لا تنافيها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
والمعنى : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدق والحسبان الباطل حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة.
﴿قَالَ﴾ مخاطباً له.
يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} في الدنيا ﴿بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ بعد المشرق والمغرب ؛ أي : تباعد كل منهما عن الآخر، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما، يعني : أن حق النسبة أن يضاف إلى أحد المنتسبين ؛ لأن قيام معنى واحد بمحلين ممتنع، بل يقوم بأحدهما، ويتعلق بالآخر، لكن لما ثنى المشرق بعد التغليب لم يبق مجال للإضافة إلى أحدهما، فأضيف إليهما على تغليب القيام على التعلق.
والمعنى بالفارسية :(اى كاشكى ميان من وتو بودى روى ميان مشرق ومغرب يعنى كاش تو از من ومن ازتو دور بودى).
﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ ؛ أي : أنت.
وبالفارسية :
بس بد همنشيني تو
يعني بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا، وبئس الصاحب اليوم.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان، فلا يفارقه حتى يصير إلى النار، كما أن الملك لا يفارق المؤمن حتى يصير إلى الجنة، فالشيطان قرين للكافر في الدنيا والآخرة، والملك قرين المؤمن فيهما، فبئس القرين الأول، ونعم القرين الثاني.
﴿حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾.
﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ﴾ : حكاية لما سيقال لهم حينئذٍ من جهة الله تعالى توبيخاً وتقريعاً ؛ أي : لن ينفعكم اليوم تمنيكم لمباعدتهم ﴿إِذ ظَّلَمْتُمْ﴾ ؛ أي : لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي، وإذا للتعليل متعلق بالنفي، كما قال سيبويه : إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة.
﴿أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ تعليل لنفي النفع ؛ أي : لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم القرناء في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : ربنا آتنا ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً، ونظائره لتشفوا بذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
وفي الآية إشارة إلى حال التابع والمتبوع من أهل الأهواء والبدع، فإن المتبوع منهم كان شيطان التابع في الإضلال عن طريق السنة، فلما فات الوقت وأدرك المقت وقعوا في التمني الباطل.
قيل :()
فضل اليوم على الغد
أن للتأخير آفات
فعلى العاقل تدارك حاله، وتفكر ما له والهرب من الشيطان الأسود والأبيض قبل أن يهرب هو منه.
حكي : أن عابداً عبد الله تعالى في صومعته دهراً طويلاً، فولدت لملكهم ابنة
٣٧٠


الصفحة التالية
Icon