قال بعض الكبار : إن الله تعالى لم يأتهم بشيء من الآيات إلا كان أوضح مما قبله، ولم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله من ظلومية طبع الإنسان وكفوريته.
﴿وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ﴾ ؛ أي : عاقبناهم بالسنين والطوفان والجراد والدم والطمس ونحوها.
وكانت هذه الآيات دلالات ومعجزات لموسى وزجراً، أو عذاباً للكافرين.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ؛ أي : لكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر، فإن من جهولية نفس الإنسان، أن لا يرجع إلى الله على أقدام العبودية إلا أن يجر بسلاسل البأساء والضراء إلى الحضرة، فكلمة لعل مستعارة لمعنى كي، وهو التعليل كما سبق في أول هذه السورة، وتفسير بإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان، كما فسره أهل الاعتزال خطأ محض لا ريب فيه ؛ لأن الإرادة
٣٧٥
تستلزم المراد بخلاف الأمر التكليفي، فإنه قد يأمر بما لا يريد، والذي يريده، فهو واقع البتة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَقَالُوا﴾ ؛ أي : فرعون وقومه في كل مرة من العذاب لما ضاق نطاق بشريتهم.
يا اأَيُّهَ السَّاحِرُ} نادوا بذلك في مثل تلك الحالة ؛ أي : عند طلب كشف العذاب بدعائه لغاية عتوهم وغاية حماقتهم، أو سبق ذلك إلى لسانهم على ما ألفوه من تسميتهم إياه بالساحر لفرط حيرتهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر أن النداء كان باسمه العلم كما في الأعراف، لكن حكى الله تعالى هنا كلامهم لا بعبارتهم، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم من اعتقادهم أنه ساحر لاقتضاء مقام التسلية ذلك، فإن قريشاً أيضاً سموه ساحراً وسموا ما أتى به سحراً.
وعن الحسن : قالوه على الاستهزاء.
وقال ابن بحر ؛ أي : الغالب بالسحر نحو خصمته.
وقال بعضهم : قالوه تعظيماً، فإن السحر كان عندهم علماً عظيماً، وصفة ممدوحة.
والساحر فيهم عظيم الشأن، فكأنهم قالوا : يا أيها العالم بالسحر الكامل الحاذق فيه ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ ليكشف عنا العذاب.
قال في "التأويلات النجمية" : ما قالوا مع هذا الاضطرار يا أيها الرسول، وما قالوا : ادع لنا ربنا ؛ لأنهم ما رجعوا إلى الله بصدق النية وخلوص العقيدة ليروه بنور الإيمان رسولاً، ويروا الله ربهم، وإنما طمعوا باضطرار لخلاص أنفسهم لا لخلاص قلوبهم.
﴿بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ ما : مصدرية، والباء : للسببية.
وأصل العهد بمعنى : التوصية أن يتعدى بإلى إلا أنه أورد بدلها لفظ عندك إشعاراً بأن تلك الوصية مرعية محفوظة عنده لا مضيعة ملغاة.
قال الراغب : العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وعهد فلان إلى فلان بعهد ؛ أي : ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه.
والمعنى : بسبب عهده عندك بالنبوة، فإن النبوة تسمى عهد الله.
وبالفارسية :(بسبب آن عهدى كه نزديك تونهاده است).
أو من استجابة دعوتك، أو من كشف العذاب عمن اهتدى.
قال بعضهم : الأظهر أن الباء في الوجه الأول للقسم ؛ أي : ادع الله بحق ما عندك من النبوة.
﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ ؛ أي : لمؤمنون على تقدير كشف العذاب عنا بدعوتك وعد منهم معلق بشرط الدعاء، ولذا تعرضوا للنبوة على تقدير صحتها.
وقالوا : ربك لا ربنا، فإنه إنما يكون ربهم بعد الإيمان ؛ لأنهم قائلون بربوبية فرعون.
﴿فَلَمَّآ﴾ :(بس آن هنكام كه).
﴿كَشَفْنَا﴾ :(ببرديم وازاله كرديم).
﴿عَنْهُمُ الْعَذَابَ﴾ بدعاء موسى.
﴿إِذَا هُم﴾ :(همان زمان ايشان) ﴿يَنكُثُونَ﴾ : النكث في الأصل نقض الحبل والغزل ونحو ذلك.
وبالفارسية :(تابازدادن ريسمان).
واستعير لنقض العهد.
والمعنى : فاجأوا وقت نقض عهدهم بالاهتداء، وهو الإيمان ؛ أي : بادروا النكث، ولم يؤخروه وعادوا إلى كفرهم، وأصروا عليه، ولما نقضوا عهودهم صاروا ملعونين، ومن آثار لعنهم الغرق، كما يأتي فعلى العاقل الوفاء بالعهد.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
حكي : أن النعمان بن المنذر من ملوك العرب جعل لنفسه في كل سنة يومين، فإذا خرج فأول من يطلع عليه في يوم نعمه يعطيه مائة من الإبل ويغنيه.
وفي يوم بؤسه يقتله، فلقيه في يوم بؤسه رجل طاقي، فأيقن بقتله.
وقال : حيَّ الله الملك إن الاحتياج والضرورة قد حملاني على الخروج في هذا اليوم، ولكن لا يتفاوت الأمر في قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إلى أهلي وأولادي القوت وأودعهم، ثم أعود فرق له النعمان.
وقال : لا يكون ذلك إلا بضمان رجل منا، فإن لم ترجع قتلناه.
قال شريك بن علي : ضمانه علي، فذهب الطاقي، ثم رجع قريباً من المساء، فلما رآه النعمان أطرق رأسه، ثم رفع وقال : ما رأيت
٣٧٦
مثلكما، أما أنت أيها الطاقي، فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يفتخر به، وأما أنت يا شريك، فما تركت لكريم سماحة؟ فلا أكون أخس الثلاثة ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس كرامة لكما، ثم أحسن إلى الطاقي.
وقال : ما حملك على ذلك؟ قال : ديني فمن لا وفاء له لا دين له، فظهر أن الوفاء سبب النجاة.
وفي المثنوي :
جرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت
كى تواند سيد دولت زوكريخت


الصفحة التالية
Icon