وأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة، ومن الله منع الدماء والمال، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره، ومن الله الفوز باللقاء الدائم.
وعن بعضهم أنه سافر للحج على قدم التجريد وعاهد الله أنه لا يسأل أحداً شيئاً، فلما كان في بعض الطريق مكث مدة لا يفتح عليه بشيء، فعجز عن المشي، ثم قال : هذا حال ضروري تؤدي إلى تهلكة بسبب الضعف المؤدي إلى الانقطاع.
وقد نهى الله عن إلقاء النفس إلى التهلكة، ثم عزم على السؤال، فلما هم بذلك انبعث من باطنه خاطر رده عن ذلك العزم.
ثم قال : أموت ولا أنقض عهداً بيني وبين الله، فمرت القافلة وانقطع ذلك البعض واستقبل القبلة مضطجعاً ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذ هو بفارس قائم على رأسه معه، إداوة فسقاه وأزال ما به من الضرورة، فقال له : تريد القافلة، فقال : وأين مني القافلة، فقال : قم، وسار معه خطوات، ثم قال : قف ها هنا، والقافلة تأتيك فوقف، وإذا بالقافلة مقبلة من خلفه.
وهذا من قبيل طي المكان كرامة من الله تعالى لأهل الشهود والحضور :
نتوان بقيل وقال زار باب حال شد
منعم نميشود كسى از كفت وكوى كنج
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِه قَالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ﴾ بنفسه أو بمناد أمره بالنداء ﴿فِى قَوْمِهِ﴾ في مجمعهم وفيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا.
﴿قَالَ﴾ :(كفت از روى عظمت وافتخار).
يا قَوْمِ} :(اى كروه من يعنى قبطيان).
﴿أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ﴾، وهي أربعون فرسخاً في أربعين.
قال الكاشفي :(آيانيست مرا مملكت مصر از اسكندريه تاسر حد شام).
وفي "فتح الرحمن" : وهو من نحو الإسنكدرية إلى أسوان بطول النيل.
وأسوان بالضم : بلد بصعيد مصر كما في "القاموس".
قال في"روضة الأخبار" : مصر بلدة معروفة بناها مصر بن حام بن نوح.
وبه سميت مصر مصراً.
وفي "القاموس" : مصر والمكان تمصيراً جعلوه مصراً، فتمصر، ومصر للمدينة المعروفة سميت لتمصرها، أو لأنه بناها مصر بن نوح.
وقال بعضهم : مصر بلد معروف من مصر الشيء يمصره إذا قطعه سمي به لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة.
انتهى.
﴿وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ﴾ ؛ أي : أنهار النيل، فاللام عوض عن المضاف إليه.
قال في "كشف الأسرار" :(آب نيل بسيصد وشصت جوى منقسم بوده).
والمراد هنا : الخلجان الكبار الخارجة من النيل ومعظمها أربعة أنهر : نهر الملك، وهو نهر الإسكندرية ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وهو كسكين بلد بجزيرة من جزائر بحر الروم قرب دمياط ينسب إليها الثياب الفاخرة كما في "القاموس".
﴿تَجْرِى مِن تَحْتِى﴾ ؛ أي : من تحت قصري أو أمري.
قال الكاشفي :(جهار حوى بزرك درباغ او ميرفت واز زير قصر هاى او ميكذست).
والواو إما عاطفة لهذه الأنهار على ملك، فتجري حال منها، أو للحال فهذه مبتدأ، والأنهار صفتها، وتجري خبر للمبتدأ.
قال في "خريدة العجائب" : ليس في الدنيا نهر أطول من النيل ؛ لأن مسيرته شهران في الإسلام،
٣٧٧
وشهران في الكفر، وشهران في البرية، وأربعة أشهر في الخراب ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف خط الاستواء، وسمي جبل القمر ؛ لأن القمر لا يطلع عليه أصلاً لخروجه عن خط الاستواء، وميله عن نوره وضوءه يخرج من بحر الظلمة ؛ أي : البحر الأسود، ويدخل تحت جبل القمر.
وليس في الدنيا نهر يشبه بالنيل إلا نهر مهران، وهو نهر السند.
﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ : ذلك يريد به استعظام ملكه وعن هارون الرشيد لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه وكان أسود أحمق.
(عقل وكفايت آن سياه بحدى بودكه طائفة حراث مصر شكايت آور دندش كه ينبه كاشته بوديم بركنار نيل وباران بى وقت آمد وتلف شد كفت بشم بايستى كاشتن تاتلف نشدى دانشمندى اين سخن بشنيد وبخنديه وكفت) :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
اكر روزى بدانش برفزودى
زنادان تنك روزى تر نبودى
بنادانان جنان روزى رساند
كه دانايان از وحيران بماند
وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها، فخرج إليها، فلما شارفها، ووقع عليها بصره.
قال : أهي القرية التي افتخر فيها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر، والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.
قال الحافظ ابن الفرج بن الجوزي يوماً في قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي، ويحه افتخر بنهر ما أجراه ما أجراه :
افتخار از رنك وبو وازمكان
هست شادى وفريب كودكان


الصفحة التالية
Icon