وروي : أنه عليه السلام رد على ابن الزبعرى بقوله : ما أجهلك بلغة قومك.
أما فهمت أن ما لما لا يعقل، فيكون أن الذين سبقت.
إلخ.
لدفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب.
وفي هذا الحديث تصريح بأن ما موضوع لغير العقلاء، لا كما يقول جمهور العلماء أنه موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، كما في "بحر العلوم".
وقد بين عليه السلام أيضاً بقوله :"بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك أن الملائكة والمسيح عزيراً" بمعزل عن أن يكونوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى :﴿سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ﴾ (سبأ : ٤١)، بل كانوا يعبدون الجن، وإنما أظهروا الفرح ورفع الأصوات من أول الأمر لمحض وقاحتهم وتهالكهم على المكابرة والعناد، كما ينطق به قوله تعالى :﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَ﴾ : الجدل : فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله، وإبطال غيره، وهو مأمور به على وجه الإنصاف، وإظهار الحق بالاتفاق، وانتصاب جدلاً على أنه مفعول له للضرب ؛ أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك.
قال بعض الكبار : إن قال عليه السلام :"آلهتكم خير من عيسى"، فقد أقر بأنها معبودة، وإن قال عيسى خير من آلهتكم، فقد أقر بأن عيسى يصلح ؛ لأن يعبد، وإن قال : ليس واحد منهم خيراً، فقد نفى عيسى فراموا بهذا السؤال أن يجادلوه، ولم يسألوه للاستفادة فبين الله أن جدالهم ليس لفائدة إنما هو لخصومة نفس الإنسان، فقال :﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ؛ أي : الداء شداد الخصومة بالباطل مجبولون على اللجاج والخلاف، كما قال تعالى :﴿وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا﴾ (الكهف : ٥٤)، وذلك لأنهم قد علموا أن المراد من قوله : وما يعبدون من دون الله هؤلاء الأصنام بشهادة المقام، لكن ابن الزبعرى لما رأى الكلام محتملاً للعموم بحسب الظاهر وجد مجالاً للخصومة.
وفي الحديث :"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل"، ثم قرأ : ما ضربوه لك، الآية.
﴿إِنْ هُوَ﴾ ؛ أي : ما هو ؛ أي : ابن مريم وهو عيسى ﴿إِلا عَبْدٌ﴾ مربوب.
﴿أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ بفضلنا عليه بالنبوة، أو يخلقه بلا أب، أو بقمع شهوته لا ابن الله، والعبد لا يكون مولى وإلهاً كالأصنام.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله : أنعمنا عليه بأن جعلنا ظاهره إماماً للمريدين وباطنه نوراً لقلوب العارفين.
﴿وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾ ؛ أي : أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة.
قال بعض الكبار : عبرة يعتبرون به بأن يسارعوا في عبوديتنا طمعاً في إنعامنا عليهم، وكل عبد منعم عليه، إما نبي أو ولي.
﴿وَلَوْ نَشَآءُ﴾ : لو للمضي وإن دخل على المضارع.
ولذا لا يجزمه ويتضمن لو معنى الشرط ؛ أي : قدرنا بحيث لو نشاء.
﴿لَّجَعَلْنَا﴾ : أولدنا ؛ أي : لخلقنا بطريق التوالد ﴿مِنكُم﴾، وأنتم رجال من الإنس ليس من شأنكم الولادة، كما ولد حواء من آدم وعيسى من غير أب، وإن لم تجر العادة.
﴿مَّلَائكَةً﴾
٣٨٢
كما خلقناكم بطريق الإبداع.
﴿فِى الأرْضِ﴾ مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين في السماء.
﴿يَخْلُفُونَ﴾ ؛ يقال : خلف فلان فلاناً إذا قام بالأمر عنه، إما معه وإما بعده ؛ أي : يخلفونكم ويصيرون خلفاء بعدكم مثل أولادكم فيما تأتون وتذرون ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم مع أن شأنهم التسبيح والتقديس في السماء، فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية كيف يتوهم استحقاقهم للمعبودية، أو انتسابهم إليه بالولادة، يعني أن الملائكة مثلكم في الجسمية، واحتمال خلقها توليداً لما ثبت أنها أجسام، وأن الأجسام متماثلة، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر، كما جاز خلقها إبداعاً، وذات القديم الخالق، لكل شيء متعالية عن مثل ذلك، فقوله : ولو نشاء.
إلخ.
لتحقيق أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله، وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك، وهو توليد الملائكة من الرجال مع التنبيه على سقوط الملائكة أيضاً من درجة المعبودية.
قال سعدي المفتي : لجعلنا منكم ؛ أي : ولدنا بعضكم، فمن للتبعيض، وملائكة نصب على الحال، والظاهر أن من ابتدائية ؛ أي : نبتدىء التوليد منكم من غير أم عكس حال عيسى عليه السلام، والتشبيه به على الوجهين في الكون على خلاف العادة، وجعل بعضهم من للبدل.
يعني :(شمارا اهلاك كنيم وبدل شما ملائكة آريم كه ايشان در زمين ازبى در آنيد شمارا).
يعمرون الأرض، ويعبدونني كقوله تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (إبراهيم : ١٩)، فتكون الآية للتوعد بالهلاك والاستئصال، ولا يلائم المقام.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩


الصفحة التالية
Icon