وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الله لكل نفس جنة ونار.
فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر.
قال بعضهم : قارن ثواب الجنة بالأعمال، وأخرج المعرفة واللقاء والمحبة والمشاهدة من العلل ؛ لأنها اصطفائية خاصة أزلية يورثها من يشاء من العارفين الصديقين، فالجنة مخلوقة، وكذا الأعمال، فأعطيت للمخلوق بسبب المخلوق، وجعل الرؤية عطاء لا يوازيها شيء.
﴿لَكُمْ فِيهَا﴾ ؛ أي : في الجنة سوى الطعام والشراب.
﴿فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ﴾ بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الإفراط فقط.
والفواكه من أشهى الأشياء للناس وألذها عندهم وأوفقها لطباعهم وأبدانهم.
ولذلك أفردها بالذكر ﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ؛ أي : بعضها تأكلون في نوبة لكثرتها.
وأما الباقي، فعلى الأشجار على الدوام لا ترى فيها شجرة خلت عن ثمرها لحظة، فهي مزينة بالثمار أبداً موفرة بها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
وفي الحديث :"لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها" فمن تبعيضية.
والتقديم للتخصيص.
ويجوز أن تكون ابتدائية وتقدم الجار للفاصلة، أو للتخصيص، كالأول فيكون فيه دلالة على أن كل ما يأكلون للتفكه ليس فيها تفوت إذ لا تحلل حتى يحتاج إلى الغذاء.
ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والمشارب والملابس، وتكريره في القرآن، وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعيم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة، ففيه تحريك لدواعيهم وتشويق لهم.
والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم، فوجب أن يدخل تحت هذا الوعد.
والظاهر أنه خارج، فإنه يخاف ويحزن يوم القيامة، ولا محذور في خروجه.
والحاصل : أن الآية في حق المؤمنين الكاملين، فإنهم الذين أسلموا وجوههمتعالى، وأما الناقصون، فإنهم وإن آمنوا لكن إسلامهم لم يكن على الكمال، وإلا لما خصوا الله بترك التقوى، فمقام الامتنان يأبى عن دخولهم تحت حكم الآية.
اللهم إلا بطريق الإلحاق، فإن لهم نعيماً بعد انقضاء مدة خوفهم وحزنهم، وانتهاء زمان حبسهم وعذابهم، فعلى العاقل أن يجتهد في الظواهر والبواطن، فإن من اكتفى بالمطاعم والمشارب الصورية حرم من طعام المشاهدات وشراب المكاشفات، ومن لم يطعم في هذه الدار من أثمار أشجار المعارف لم
٣٩٢
يلتذ في تلك الدار بالأذواق الحقيقية التي هي نصيب الخواص من أهل التقوى.
قال الحافظ :
عشق مى ورزم واميدكه اين فن شريف
جون هنر هاى دكر موجب حرمان نشود
اللهم اجعلنا من المشتاقين إلى جمالك والقابلين لوصالك بحرمة جلالك.
﴿لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ﴾.
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ ؛ أي : الراسخين في الإجرام وهم الكفار، وحسبما ينبىء عند إيرادهم في مقابلة المؤمنين بالآيات ﴿فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ﴾ متعلق بقوله :﴿خَـالِدُونَ﴾ ؛ أي : لا ينقطع عذابهم في جهنم، كما ينقطع عذاب عصاة المؤمنين على تقدير دخولهم فيها.
﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ ؛ أي : لا يخفف العذاب عنهم ولا ينقص مقولهم فترت عنه الحمى إذ سكنت قليلاً ونقص حرها، والتركيب للضعف والوهن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
قال الراغب : الفتر سكون بعد حدة ولين بعد شدة وضعف بعد قوة :(والتفتيرسست كردانيدن).
﴿وَهُمْ فِيهِ﴾ ؛ أي : في العذاب.
﴿مُبْلِسُونَ﴾ : آيسون من النجاة والراحة وخفة العقوبات قيل يجعل المجرم في تابوت من النار، ثم يردم عليه، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى.
قال في "تاج المصادر" : الإبلاس (نومبيد شدن وشكسته واندوهكين شدن).
وفي "المفردات" : الإبلاس : الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت، وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان، إذا سكنت وانقطعت حجته.
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أهل التوحيد، وإن كان بعضهم في النار، لكن لا يخلدون فيها، ويفتر عنهم العذاب بدليل الخطاب.
وقد ورد في الخبر أنه يميتهم الحق إماتة إلى أن يخرجهم من النار.
والميت لا يحس، ولا يألم.
وذكر في الآية، وهم مبلسون ؛ أي : خائبون.
وهذه صفة الكفار والمؤمنون، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن تنتهي أشجانهم.
وقال بعض الشيوخ : إن حال المؤمن من النار من وجه أروح لقلوبهم من حالهم في الدنيا ؛ لأن اليوم خوف الهلاك، وهذا يعين النجاة، ولقد أنشدوا :()
عيب السلامة أن صاحبها
متوقع لقوا صم الظهر
وفضيلة البلوى ترقبه
عقبى الرجاء ودورة الدهر
هست در قرب همه بيم زوال
نيست در بعد جزاميد وصال


الصفحة التالية
Icon