﴿وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ﴾ بذلك ﴿وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ﴾ لتعريض أنفسهم للعذاب الخالد بالكفر والمعاصي، وهم ضمير فصل عند البصريين من حيث أنه فصل به بين كون ما بعده خبراً ونعتاً وتسمية الكوفيين له عماداً لكونه حافظاً لما بعده، حتى لا يسقط عن الخبرية كعماد البيت، فإنه يحفظ سقفه من السقوط.
﴿وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ * وَنَادَوْا يا مَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَا قَالَ إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾.
﴿وَنَادَوْا يا مَـالِكُ﴾ :(درخواه ازخداى تو).
﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ ؛ أي : ليمتنا حتى نستريح من قضى عليه إذا أماته.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا، وهذا لا ينافي ما ذكر من إبلاسهم ؛ لأنه جؤار ؛ أي : صياح وتمن للموت لفرط الشدة.
﴿قَالَ﴾ : مالك مجيباً بعد أربعين سنة، يعني : ينادون ملكاً أربعين سنة، فيجيبهم بعدها أو بعد مائة سنة أو ألف.
(در تبيان أورده كه بعد از جهل روز از روزهاى آن سراى).
لأن تراخي الجواب أحزن لهم.
﴿إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ﴾ : المكث : ثبات مع انتظار ؛ أي : مقيمون في العذاب أبداً لا خلاص لكم منه بموت، ولا بغيره، فليس بعدها إلا جؤار كصياح
٣٩٣
الحمير أوله زفير وآخره شهيق.
﴿لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ﴾ في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهة الله تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم.
وفي "التأويلات النجمية" : لقد جئناكم بالدين القويم، فلم تقبلوا ؛ لأن أهل الطبيعة الإنسانية أكثرهم يميلون إلى الباطل، كما قال ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ﴾ ؛ أيَّ : حق كان ﴿كَـارِهُونَ﴾ ؛ أي : لا يقبلون وينفرون منه لما في طباعه من إتعاب النفس والجوارح، وأما الحق المعهود الذي هو التوحيد، أو القرآن، فكلهم كارهون له مشمئزون منه.
هكذا قالوا والظاهر ما أشار إليه في "التأويلات"، فاعرف.
والكراهة مصدر كره الشيء بالكسر ؛ أي : لم يرده فهو كاره.
وفي الآية إشارة إلى أن النفرة عن الحق من صفات الكفار، فلا بدون قبول الحق حلواً ومراً وإلى أن الله تعالى ما ترك الناس سدى، بل أرشدهم إلى طريق الحق بدلالات الأنبياء والأولياء لكن أكثرهم لم يقبلوا العلاج، ثم إن أنفع العلاج هو التوحيد.
حكي عن الشبلي قدس سره : أنه اعتل فحمل إلى البيمارستان وكتب علي بن عيسى الوزير إلى الخليفة في ذلك، فأرسل الخليفة إليه مقدم الأطباء وكان نصرانياً ليداويه، فما أنجحت مداواته، فقال الطبيب للشبلي، والله لو علمت أن مداواتك من قطعة لحم في جسدي ما عسر علي ذلك، فقال الشبلي : دوائي في دون ذلك.
قال الطبيب : وما هو؟ قال : في قطعك الزنار، فقال الطبيب : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فأخبر الخليفة بذلك، فبكى.
وقال : نفذنا طبيباً إلى مريض، وما علمنا أنا نفذنا مريضاً إلى طبيب.
ونظيره ما حكي : أن الشيخ نجم الدين الأصفهاني قدس سره : خرج مع جنازة بعض الصالحين بمكة، فلما دفنوه وجلس الملقن يلقنه، ضحك الشيخ نجم الدين، وكان من عادته لا يضحك، فسأله بعض أصحابه عن ضحكه فزجره، فلما كان بعد ذلك قال : ما ضحكت إلا لأنه لما جلس على القبر يلقن سمعت صاحب القبر يقول : ألا تعجبون من ميت يلقن حياً أشار إلى أن الملقن وإن كان من زمرة الأحياء صورة، لكنه في زمرة الأموات حقيقة لممات قلبه بالغفلة عن الله تعالى، فهو ماكث في جهنم النفس معذب بعذاب الفرقة، لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره بخلاف الذي لقنه، فإنه بعكس ذلك، يعني أنه وإن كان في زمرة الأموات صورة لكن في زمرة الأحياء حقيقة ؛ لأن المؤمنين الكاملين لا يموتون، بل ينقلبون من دار إلى دار، فهو ماكث في جنة القلب منعم بنعيم منتفع بأعماله وأحواله.
وله تأثير في نفع الغير أيضاً بالشفاعة ونحوها على ما أشار إليه قوله تعالى :﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ (النازعات : ٥) :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
مشوبمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
فإذا عرفت حال ملقن القبر فقس عليه سائر أرباب التلقين من أهل النقصان وأصحاب الدعوى والرياء، فإن الميت يحتاج في إحيائه إلى نفخ روح حقيقي وأنى ذلك لمن في حكم الأموات من النافخين، فإن نفخته عقيم إذ ليس من أهل الولادة الثانية.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا أحياء بالعلم والمعرفة والشهود ويعصمنا من الجهل والغفلة والقيود.


الصفحة التالية
Icon