﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا﴾ : الإبرام : إحكام الأمر وأصله من إبرام الحبل، وهو ترديد فتله، وهو كلام مبتدأ، وأم منقطعة، وما فيها من معنى، بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء.
والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الإحكام حقيقة، فهي لإنكار الوقوع، واستبعاده وإن أريد الإحكام صورة،
٣٩٤
فهي لإنكار الواقع واستقباحه ؛ أي : أبرم وأحكم مشركوا مكة أمر من كيدهم ومكرهم برسول الله ﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون بهم حقيقة، كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى :﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ (الطور : ٤٢) وكانوا يتناجون في أنديتهم، ويتشاورون في أموره عليه السلام.
قال في "فتح الرحمن" : كما فعلوا في اجتماعهم على قتله عليه السلام في دار الندوة إلى غير ذلك.
وفي الآية إشارة إلى أن أمور الخلق منتقدة عليهم قلما يتم لهم ما دبروه، وقلما يرتفع لهم من الأمور شيء على ما قدروه.
وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع.
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ﴾ ؛ أي : بل أيحسبون يعني :(بابندار ند نا كران كفار).
﴿أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾، وهو ما حدثوا به أنفسهم من الكيد ؛ لأنهم كانوا مجاهرين بتكذيب الحق.
﴿وَنَجْوَاـاهُم﴾ ؛ أي : بما تكلموا به فيما بينهم بطريق التباهي والتشاور.
وبالفارسية :(وآنجه براز بايكديكر مشاورت ميكنند).
يقال : ناجيته ؛ أي : ساررته وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض ؛ أي : مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله.
﴿بَلَى﴾ نحن نسمعهما ونطلع عليهما.
﴿وَرُسُلُنَا﴾ الذي يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم إينما كانوا ﴿لَدَيْهِمْ﴾ عندهم ﴿يَكْتُبُونَ﴾ ؛ أي : يكتبونهما، أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم، ثم تعرض عليهم يوم القيامة، فإذا كان خفاياهم غير خفية على الملائكة، فكيف على عالم السر والنجوى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
والجملة عطف على ما يترجم عنه بلى.
وفي "التأويلات النجمية" : خوفهم بسماعه أحوالهم وكتابة الملك عليهم أعمالهم لغفلتهم عن الله، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوفهم بغير الله، ومن علم أن أعماله تكتب عليه، ويطالب بمقتضاها قل إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : دل قوماً من عباده إلى الحياء منه، ودل قوماً إلى الحياء من الكرام الكاتبين، فمن استغنى بعلم نظر الله إليه، والحياء منه أغناه ذلك عن الاشتغال بالكرام الكاتبين.
وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله من ستر من الناس ذنوبه وأبداها لمن لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
قال الشيخ سعدي :(في كلستانه بخشايش الهى كم شدة را در مناهي جراغ توفيق فراراه داشت وبخلقه أهل تحقيق در آمد وبيمن قدم درويشان وصدق نفس ايشان ذمايم اخلاق او بمحامد مبدل شده دست ازهوا وهوس كوتاه كرده بودو زبان طاعنان در حقش در ازكه همجنانكه قاعدة اولست وزهد وصلاحش نا معقول.
بعذر توبه توان رستن از عذاب خداى وليك مى نتوان از زبان مردم رست.
جون طاقت جورز بانها نياورد شكايت اين حال باببر طريقت بردشيخ بكريست وكفت شكرآن نعمت كجا كزارى كه بهترازانى كه بندار ندت نيك باشى وبدت كويند خلق به كه بد باشى ونيكت كويند ليكن مرابين كه حسن ظن همكنان در حق من بكمالست ومن درغايت نقصان) :()
إني لمستتر من عين جيراني
والله يعلم أسراري وإعلاني
دربسته بروى خود زمردم
تاعيب نكسترند مارا
دربسته جه سود عالم الغيب
داناى نهان وآشكارا
يقول الفقير : دلت الآية على أن الحفظة يكتبون الأسرار والأمور
٣٩٥
القلبية سئل سفيان بن عيينة رحمه الله : هل يعلم الملكان الغيب، فقال : لا، فقيل له : فكيف يكتبون ما لا يقع من عمل القلب، فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه، فإذا هم العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك، فيعلمون ذلك، فيكتبونها حسنة وإذا هم بسيئة استقر قلبه لها فاح منه ريح النتن.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبد في قول أكثرهم.
وقال في شرح الطريقة يكره الكلام في الخلاء، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة ؛ لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه ؛ لأجل كتابة الكلام، فإن سلم عليه في هذه الحالة.
قال الإمام أبو حنيفة يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة، فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية.
وقال في "ريحان القلوب" : الذكر الخفي هو ما خفي عن الحفظة لا ما يحفض به الصوت، وهو خاص به صلى الله عليه وسلّم ومن له به أسوة حسنة.
انتهى.
والله أعلم بتوفيق الأخبار.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩


الصفحة التالية
Icon