﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُما بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ * سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾ للكفرة ﴿إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ﴾ فرضاً كما تقولون الملائكة بنات الله ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ لذلك الولد وأسبقكم إلى تعظيمه والانقياد له، وذلك لأنه عليه السلام أعلم الناس بشؤونه تعالى، وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأولاهم بمراعاة حقوقه، ومن مواجب تعظيم الوالد تعظيم ولده ؛ أي : أن يثبت بحجة قطعية كون الولد له تعالى كما تزعمون، فأنا أولكم في التعظيم وأسبقكم إلى الطاعة تعظيماًتعالى وانقياداً ؛ لأن الداعي إلى طاعته وتعظيمه أول وأسبق في ذلك وكون الولد له تعالى مما هو مقطوع بعدم وقوعه، ولكن نزل منزلة ما لا جزم لوقوعه واللاوقوعه على المساهلة وإرخاء العنان لقصد التبكيت والإسكات والإلزام فجيء بكلمة إن فلا يلزم من هذا الكلام صحة كينونة الولد وعبادته ؛ لأنها محال في نفسها يستلزم المحال.
يعني :(اين سخن بر سبيل تمثيل است ومبالغه در نفى ولد).
فليس هناك ولد ولا عبادة له.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى نوع من الاستهزاء بهم وبمقالتهم والاستخفاف بعقولهم، يعني : قل إن كان للرحمن ولد كما تزعمون وتعبدون عيسى، بأنه ولده فأنا كنت أول العابدين.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلّم قبل كل شيء، وأول من وحد الله تعالى ذرية محمد عليه السلام، وأول ما جرى به القلم : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال : فأنا أول العابدين أحق بتوحيد الله وذكر الله.
﴿سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ : في إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه سبحانه.
﴿رَبِّ الْعَرْشِ﴾ في تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ؛ أي : يصفونه به، وهو الولد.
قال في "بحر العلوم" ؛ أي : سبحوا رب هذه الأجسام العظام ؛ لأن مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كل مربوب فيها ونزهوه عن كل ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام، فإنه لو كان جسماً لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿فَذَرْهُمْ﴾ ؛ أي : اترك الكفرة حيث لم يذعنوا للحق بعدما سمعوا هذا البرهان الجلي.
﴿يَخُوضُوا﴾ يشرعوا في أباطيلهم وأكاذيبهم.
والخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار للأمور وأكثر ما ورد في القرآن فيما يذم الشروع فيه كما في "المفردات".
﴿وَيَلْعَبُوا﴾ في دنياهم، فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليست إلا من باب الجهل واللعب والجزم في الفعل لجواب الأمر،
٣٩٦
يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً، قالوا : كل لعب لا لذة فيه، فهو عبث، وما كان فيه لذة، فهو لعب.
﴿حَتَّى يُلَـاقُوا﴾ يعاينوا ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ﴾ على لسانك.
يعني :(روزى راكه وعده داده شده اند بملاقات آن).
وهو يوم القيامة، فإنهم يومئذٍ يعلمون ما فعلوا، وما يفعل بهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر يوم الموت، فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي به.
يقول الفقير : وفيه أن الموعود هو يوم القيامة ؛ لأنه الذي كانوا ينكرونه لا يوم الموت الذي لا يشكون فيه، ولما كان يوم الموت متصلاً بيوم القيامة على ما أشار إليه قوله عليه السلام :"من مات فقد قامت قيامته" جعل الخوض واللعب فتهيين بيوم القيامة.
وفي الآية إعلام بأنهم من الذين طبع الله على قلوبهم، فلا يرجعون عما هم عليه أبداً، وإشارة إلى أن الله خلق الخلق أطواراً مختلفة، فمنهم من خلقه للجنة، فيستعده للجنة بالإيمان والعمل الصالح، وانقياد الشريعة ومتابعة النبي عليه السلام، ومنهم من خلقه للنار، فيستعده للنار برد الدعوة والإنكار والجحود والخذلان، ويكله إلى الطبيعة النفسانية الحيوانية التي تميل إلى اللهو واللعب والخوض فيما لا يعنيه، ومنهم من خلقه للقربة والمعرفة، فيستعده لهما بالمحبة والصدق والتوكل واليقين والمشاهدات والمكاشفات والمراقبات، وبذل الوجود بترك الشهوات وأنواع المجاهدات وتسليم تصرفات أرباب المؤلفات.


الصفحة التالية
Icon