عن بهلول رحمه الله : قال بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة إذا الصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا أنا بصبي ينظر إليهم، ويبكي فقلت هذا الصبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان، ولا شيء معه يلعب به، فقلت له : أي بني ما يبكيك؟ أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إليّ وقال : يا قليل العقل ما للعب خلقنا؟ فقلت : أي بني، فلماذا خلقنا، فقال : للعلم والعبادة، فقلت : من أين لك ذلك بارك الله فيك، قال : من قول الله تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ ().
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
وحكي : أنه كان سبب خروج إبراهيم بن أدهم رحمه الله عن أهله وماله وجاهه ورياسته.
وكان من أبناء الملوك أنه خرج يوماً يصطاد، فأثار ثعلباً أو أرنباً، فبينما هو في طلبه هتف به هاتف.
ألهذا خلقت أم بهذا أمرت، ثم هتف به من قربوس سرجه.
والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، فنزل عن مركوبه، وصادف راعياً لأبيه، فأخذ جبة للراعي من صوف، فلبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم دخل البادية، وكان من شأنه ما كان.
واعلم أن الاشتغال بما سوى الله تعالى من قبيل اللهو واللعب إذ ليس فيه مقصد صحيح، وإنما المطلب الأعلى هو الله تعالى، ولذا خرج السلف عن الكل ووصلوا إلى مبدأ الكل :
دلا ترك هو اكن قرب حق كر آزرو دارى
كه دور افتد حباب از بحر در كسب هوا كردن
﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا﴾.
جعلنا الله وإياكم من المشتغلين به.
﴿وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ﴾ ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : هو معبود أهل السماء من الملائكة وبه تقوم الساعة، وليس حالاً فيها.
﴿وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ﴾ ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : فهو معبود أهل الأرض من الإنس والجن وإله الآلهة، ولا قاضي لحوائج أهل الأرض إلا هو وبه تقوم الأرض وليس حالاً فيها، فالظرفان يتعلقان بإله ؛ لأنه بمعنى المعبود بالحق، أو متضمن معناه، كقوله : هو حاتم ؛ أي : جواد لاشتهاره بالجود.
وكذا فيمن قرأ، وهو الذي في السماء الله.
وفي الأرض الله ومنه قوله تعالى : في الأنعام ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الأرْضِ﴾ (الأنعام : ٣) ؛ أي :
٣٩٧
وهو الواجب الوجود المعبود المستحق للعبادة فيهما والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر، وهو في السماء والعطف عليه والتقدير.
وهو الذي هو في السماء.
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ كالدليل على ما قبله ؛ لأنه المتصف بكمال الحكمة والعلم المستحق للألوهية لا غيره ؛ أي : وهو الحكيم في تدبير العالم وأهله العليم بجميع الأحوال من الأزل إلى الأبد.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَتَبَارَكَ﴾ تعالى عن الولد والشريك وجل عن الزوال والانتقال وعمت بركة ذكره وزيادة شكره.
﴿الَّذِى﴾ إلخ.
فاعل تبارك ﴿لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ :(بادشاهى آسمان وزمين)، ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ : إما على الدوام كالهواء، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد، فأرسل بازياً أشب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء، ثم رجع بعد اليأس منه، ومعه سمكة، فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك، فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما : أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه، وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك كذا في "حياة الحيوان".
﴿وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ ؛ أي : الساعة التي فيها تقوم القيامة لا يعلمها إلا هو.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ : الالتفات للتهديد ؛ أي : تردون للجزاء فاهتموا بالاستعداد للقائه.
قال بعض الكبار : وإليه ترجعون بالاختيار والاضطرار، فأهل السعادة يرجعون إليه بالاختيار على قدم الشوق والمحبة والعبودية وأهل الشقاوة يرجعون إليه بالاضطرار بالموت بالسلاسل والأغلال يسحبون على وجوههم إلى النار.
يقول الفقير : الرجوع باضطرار قد يكون نافعاً ممدوحاً مقبولاً، وهو أن يؤخذ العبد بالجذبة الإلهية ويجر إلى الله جراً عنيفاً، ووقع ذلك لكثير من المنقطعين إلى الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon