﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ﴾.
﴿وَنَعْمَةٍ﴾ ؛ أي : تنعم ونضارة عيش.
وبالفارسية :(واسباب تنعم وبر خوردارى).
يقال : كم ذي نعمة لا نعمة له ؛ أي : كم ذي مال لا تنعم له فالنعمة بالكسر ما أنعم به عليك.
والنعمة بالفتح : التنعم، وهو استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
وبالفارسية :(بناز زيستن).
﴿كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ﴾ : متنعمين متلذذين.
ومنه الفاكهة، وهي ما يتفكه به ؛ أي : يتنعم ويتلذذ بأكله.
﴿كَذَالِكَ﴾ : الكاف في حيز النصب وذلك إشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا ؛ أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها.
﴿كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا﴾، فهو معطوف على الفعل المقدر وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم أو تمكينهم من التصرف فيها، تمكين الوارث فيما يرثه ؛ أي : جعلنا أموال القبط لقوم ليسوا منهم في شيء من قرابة، ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل كانوا مسخرين لهم مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله وأورثهم ديارهم وملكهم وأموالهم.
وقيل : غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.
قال قتادة : لم يرو في مشهور التواريخ أنهم رجعوا إلى مصر ولا ملكوها قط، ورد بأنه لا اعتبار بالتواريخ، فالكذب فيها كثير، والله تعالى أصدق قيلاً، وقد جاء في الشعراء التنصيص بإيراثها بني إسرائيل كذا في "حواشي سعدي المفتي".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
قال المفسرون عند قوله تعالى :﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرْضِ﴾ (الأعراف : ١٢٩) ؛ أي : يجعلكم خلفاء في أرض مصر، أو في الأرض المقدسة.
وقالوا في قوله :﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا﴾ (الأعراف : ١٣٧) ؛ أي : أرض الشام ومشارقها ومغاربها جهاتها الشرقية والغربية ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة بعد انقضاء مدة التيه، وتمكنوا في نواحيها، فاضطرب كلامهم، فتارة حملوا الأرض على أرض مصر، وأخرى على أرض الشام.
والظاهر الثاني ؛ لأن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا أولادهم.
ومصر إنما ورثها أولادهم ؛ لأنها فتحت في زمان داود عليه السلام، ويمكن أن يحمل على أرض الشام ومصر جميعاً.
والمراد بالمستضعفين هم وأولادهم، فإن الأبناء ينسب إليهم ما ينسب إلى الآباء.
والله أعلم.
وفي الآية إشارة إلى ترك بحر الفضل رهواً ؛ أي : مشقوقاً بعصا الذكر ؛ لأن فرعون النفس وصفاتها فانون في بحر الوحدة تاركون لجنات الشهوات وعيون المستلذات الحيوانية وزروع الآمال الفاسدة والمقامات الروحانية بعبورهم عليها وسائر تنعمات الدنيا والآخرة بالسير، والإعراض عنها بقوله كذلك : وأورثنا إلى إلخ.
يشير أن الصفات النفسانية، وإن فنيت بتجلي الصفات الربانية فمهما يكن الغالب باقياً بالحياة يتولد منه الصفات النفسانية إلى أن تفنى هذه الصفات بالتجلي أيضاً، ولو لم تكن هذه المتولدات ما كان للسائر الترقي، فافهم جداً، فإنه بهذا الترقي يعبر السائر عن المقام الملكي ؛ لأنه ليس للملك الترقي من مقامه، كما قال تعالى :﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات : ١٦٤)، فالكمال الملكي دفعي، لا ترقي بعده، والكمال البشري تدريجي، ولا ينقطع سيره أبداً لا في الدنيا، ولا في الآخرة، والله
٤١٢
مفيض الجود.
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ﴾ : مجاز مرسل عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ؛ لأن سبب البكاء على شيء هو المبالاة بوجوده، يعني : أنه استعارة تمثيلية بعد الاستعارة المكنية في السماء والأرض بأن شبهتا بمن يصح منه الاكتراث على سبيل الكناية، وأسند البكاء إليهما.
على سبيل التخييل كانت العرب إذا مات فيهم من له خطر وقدر عظيم يقولون : بكت عليه السماء والأرض، يعني : أن المصيبة بموته عمت الخلق، فبكى له الكل حتى الأرض والسماء، فإذا قالوا : ما بكت عليه السماء والأرض، يعنون به : ما ظهر بعد ما يظهر بعده ذوي الأقدار والشرف، ففيه تهكم بالكفار وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال له : بكت عليه السماء والأرض.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
قال بعضهم : هو على حقيقته ويؤيده ما روي : أنه عليه السلام قال :"ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله، وإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا فما بكت.
إلخ.
يعني :(جون بنده وفات كند واين دودر از نزول رزق وخروج عمل محروم ماندبر وبكريند).
وفي الحديث :"إن المؤمن يبكي عليه من الأرض مصلاه، موضع عبادته، ومن السماء مصعد عمله".
وروي : إذا مات كافر استراح منه السماء والأرض والبلاد والعباد، فلا تبكي عليه أرض ولا سماء.