﴿مَا خَلَقْنَـاهُمَآ﴾، وما بينهما ملتبساً بشيء من الأشياء ﴿إِلا﴾ ملتبساً ﴿بِالْحَقِّ﴾، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث، والجزاء فهو استثناء من أعم الأسباب.
﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ ؛ أي : كفار مكة بسبب الغفلة وعدم الفكرة.
﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء، والآية دليل على ثبوت الحشر، فإنه لو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثاً ؛ لأنه تعالى خلقهم وما ينتظم به أسباب معايشهم، ثم كلفهم بالإيمان والطاعة ليتميز المطيع من العاصي، بأن يكون الأول متعلق فضله وإحسانه.
والثاني : متعلق عدله وعقابه.
وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها، وعدم الاعتداد بمنافعها لكونها مشوبة بأنواع المضار والمحن، فلا بد من البعث والجزاء لتوفى كل نفس ما عملت، فالجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها إذ لو لم يكن الجزاء، كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال المؤمن والكافر، وهو محال.
اعلم أن التجليات الوجودية إنما هي للتجليات الشهودية فكل من السماوات والأرض الصورية، وما بينهما من الموجودات مظاهر صفات الحق، فهي كالأصداف والصفات كالدرر.
والمقصود بالذات إنما هو الدرر لا الأصداف، كما أن في المقصود من المرآة إنما هو الصورة المرئية فيها، فكان كل موجود كاللباس على سر من الأسرار الإلهية، وكذا كل وضع من أوضاع الشريعة رمز إلى حقيقة من الحقائق، فلا بد من إقامته لتحصيل حقيقته.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
وهذا بالنسبة إلى الآفاق، وأما بالنسبة إلى الأنفس والأرواح كالسماوات والأشباح كالأرض والقلوب والأسرار والنفوس، كما بينهما وكلها مظاهر حق لا سيما القلوب أصداف درر المعارف الإلهية التي لم يخلق الإنس والجن إلا لتحصيلها، ولكن مرآة قلب أكثرهم مكدرة بصدأ صفات البشرية، وهم لا يعلمون أنهم مرآة لظهور صفات الحق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "من عرف نفسه" يعني بالمرآتيه عند صفائها "فقد عرف ربه" ؛ أي : بتجلي صفاته فيها فقد عرفت أنه ما في الوجود إلا الحق، وأما الباطل فإضافي لا يقدح في ذلك.
ألا ترى إلى الشيطان، فإنه باطل من حيث وجوده الظلي، ومن حيث دعوة الخلق إلى الباطل والضلال، لكنه حق في نفسه ؛ لأنه موجود، وكل موجود، فهو من التجليات الإلهية.
حكي : أن رجلاً رأى خنفساء، فقال : ماذا يريد الله من خلق هذه أحسن شكلها أم طيب ريحها فابتلاه بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب، فقال : هاتوه حتى ينظر في أمري، فقالوا : ما تصنع بطرقي، وقد عجز عنك حذاق الأطباء، فقال لي : لا بد لي منه، فلما أحضروه، ورأى القرحة استدعى بخنفساء، فضحك
٤٢٣
الحاضرون، فتذكر العليل القول الذي سبق منه، فقال : احضروا ما طلب، فإن الرجل على بصيرة، فأحرقها ووضع رمادها على قرحته فبرئت بإذن الله تعالى.
فقال للحاضرين : إن الله تعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية.
(يكى از خواجكان نقشبنديه ميفرمودكه شبى در زمان جوانى بداعيه فسادى از خانه بيرون آمدم ودرده ما عسى بغايت شرير وبد نفس كه بشرارت نفس أو كسى نمى دانستم وهمه اهل ده ازومى ترسيد نددر آن دل شب ديدم جاى دركمين استاده جون اورا بديدم از وبغايت ترسيدم وترك فساد كردم وازان محل دانستم كه بدنيز درين كارخانه دركار بوده است.
جون بعض ظهورات حق آمد باطل.
بس منكر باطل نشود جز جاهل.
در كل وجوهر كه جز حق بيند، باشدز حقيقة الحقايق غافل).
﴿مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ ؛ أي : يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ويميز المحق عن المبطل ويقضي بين الخلائق بين الأب والابن والزوج والزوجة، ونحو ذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
قال بعضهم : يوم الفصل يوم يفصل فيه بين كل عامل وعمله، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحته، فمن صح له مقامه وأعماله قبل منه وجزي عليه، ومن لم تصح له أعماله كانت أعماله عليه حسرة.
وفي المثنوي :
اى دريغا بود مارا بيروباد
تا ابد يا حسرة شد للعباد
بركذشته حسرت آوردن خطاست
بازنايد رفته يادآن هباست
﴿مِيقَـاتُهُمْ﴾ ؛ أي : وقت موعد الخلائق ﴿أَجْمَعِينَ﴾ يعني :(هنكام جمع شدن همه اولين وآخرين).
فيوم الفصل اسم إن ميقاتهم خبرها وأجمعين تأكيد للضمير المجرور في ميقاتهم، والميقات اسم للوقت المضروب للفعل، فيوم القيامة وقت لما وعدوا به من الاجتماع للحساب والجزاء.