يروى : أن الكافر إذا دخل النار يطعم الزقوم، ثم إن خازن النار يضربه على رأسه بمقمعة يسيل منها دماغه على جسده ثم يصب الحميم فوق رأسه، فينفذ إلى جوفه، فيقطع الأمعاء والإحشاء ويمرق من قدميه.
وفي الآية إشارة إلى عذاب الحسرة والحرمان وحرقة الهجران في قعر النيران.
﴿ذُقْ﴾ هذا العذاب المذل المهين.
﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ﴾ في نظرك ﴿الْكَرِيمُ﴾ عند قومك ؛ أي : وقولوا له ذلك استهزاء به، وتقريعاً له على ما كان يزعمه من أنه عزيز كريم، فمعناه : الذليل المهان.
روي : أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما بين جبلي مكة أعز وأكرم مني، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعل بي شيئاً"، فوردت الآية وعيداً له ولأمثاله عجباً كيف أقيم بالله تعظيماً له، ثم نفى الاستطاعة عنه مع أن الرسول عليه السلام كان لا يدعو رباً سواه، فالكلام المذكور من حيرة الكفر وحكم الجهل وتعصب النفس، كما قالوا : أمطر علينا حجارة من السماء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
وفي لفظ الذوق إشارة إلى أنه كان معذباً في الدنيا، ولكن لما كان في نوم الغفلة وكثافة الحجاب، لم يكن ليذوق ألم العذاب، فلما مات انتبه وذاق ألم ما ظلم به نفسه.
﴿إِنَّ هَـاذَا﴾ العذاب ﴿مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ﴾ تشكون في الدنيا أو تمارون فيه ؛ أي : تجادلون بالباطل.
وبالفارسية :(شك مى آورديد تا اكنون معاينه بديديد).
والجمع باعتبار المعنى ؛ لأن المراد جنس الأثيم، ثم هذا الامتراء إنما كان بوساوس الشيطان، وهو أجس النفس، فلا بد من دفعهما والاتصاف بصفة القلب، وهو اليقين.
ولذا قال عليه السلام ويل للشاكين في الله، وهم الذين لم يؤمنوا به تعالى يقيناً، ومن ذلك إنكار بعض أحكامه وأوامره.
وكذا الإصرار على المعاصي بحيث لا يبالي بها، فلو ترك الصلاة متعمداً، ولم ينو القضاء ولم يخف عقاب الله، فإنه يكفر ؛ لأن الأمن كفر.
وفي المثنوي :
بود كبرى در زمان بايزيد
كفت اورا يك مسلمان سعيد
كه جه باشد كرتو اسلام أورى
تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اي
يد آنكه وارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمد زكو ششهاى جان
كرجه درايمان ودين ناموقنم
ليك در ايمان او بس مؤمنم
مؤمن ايمان اويم درنهان
كرجه مهرم هست محكم دردهان
باز ايمان كرخود ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
جون شمارا ديدزان فاتر شود
زانكه نامى بيند ومغيش نى
جون بيابانرا مفازه كفتنى
وفيه إشارة إلى أن المريد إذا كان قوي الإيمان والعلم والمعرفة كان عمله واجتهاده في الظاهر بقدر ذلك وقس عليه حال الضعيف والشاك والمتردد نسأل الله سبحانه أن يسقينا من كأس قوة اليقين إنه هو المفيض المعين.
﴿إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ ؛ أي : عن الكفر والمعاصي، وهم المؤمنون المطيعون.
﴿فِى مَقَامٍ﴾ في موضع قيام.
والمراد : المكان على الإطلاق، فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم، يعني : أنه عام ومستعمل في جميع الأمكنة حتى قيل لموضع القعود مقام، وإن لم يقم فيه أصلاً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿أَمِينٌ﴾ يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه على أن وصف المقام بالأمن من المجاز في الإسناد، كما في قولهم : جرى النهر فالأمن ضد الخوف والأمين، بمعنى : ذي الأمن.
وأشار الزمخشري إلى وجه آخر، وهو أن الأمين من
٤٢٨
الأمانة التي هي ضد الخيانة، وهي في الحقيقة صفة صاحب المكان، لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التخييلية ؛ كأن المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله بما يلقي فيه من المكاره، أو كناية ؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل فقد أثبت له لقولهم : المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه كما في "بحر العلوم".
وفي الآية إشارة إلى أن من اتقى الله عما سواه يكون مقامه مقام الوحدة آمناً من خوف الاثنينية، وإلى أن من كان في الدنيا على خوف العذاب ووجل الفراق كان في الآخرة على أمن وأمان.
وقال بعضهم : المقام الأمين مجالسة الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.
يقول الفقير : أما مجالستهم يوم الحشر، فظاهرة ؛ لأن فيها الأمن من الوقوع في العذاب إذ هم شفعاء عند الله، وأما مجالستهم في الدنيا فلأن فيها الأمن من الشقاوة إذ لا يشقى بهم جليسهم.
وفي الآية إشارة أخرى لائحة للبال، وهي أن المقام الأمين هو مقام القلب، وهي جنة الوصلة، ومن دخله كان آمناً من شر الوسواس الخناس ؛ لأنه لا يدخل الكعبة التي هي إشارة إلى مقام الذات، كما لا يقدر على الوسوسة حال السجدة التي هي إشارة إلى الفناء في الذات الأحدية.
قال أهل السنة : كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق، فيدخل الفساق في هذا الوعد.