يقول الفقير : الظاهر أن المطلق مصروف على الكامل بقرينة أن المقام مقام الامتنان والكامل هو المؤمن المطيع كما أشرنا إليه في عنوان الآية، نعم يدخل العصاة فيه انتهاء وتبعية لا ابتداء وأصالة، كما يدل عليه الوعيد الوارد في حقهم، وإلا لاستوى المطيع والعاصي.
وقد قال تعالى :﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص : ٢٨) عفا الله عنا وعنكم أجمعين.
قال الشيخ سعدي :
كسى را كه باخواجة تست جنك
بدستش جرا مى دهي جوب وسنك
مع آخر كه باشد كه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش نهند
﴿فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ﴾ : بدل من مقام جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب.
والمراد بالعيون : الأنهار الجارية والتنكير فيهما للتعظيم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ : خبر ثاننٍ.
وإستبرق بقطع الهمزة.
وقرأ الخليل بوصلها.
قال في "كشف الأسرار" : السندس : ما رق من الحرير يجري مجرى الشعار لهم، وهو اللين من الدثار في المعتاد والإستبرق ما غلظ منه، وصفق نسجه يجري مجرى الدثار، وهو أرفع نوع من أنواع الحرير، والحرير نوعان : نوع كلما كان أرق أنفس، ونوع كلما كان أرزن بكثرة الإبريسم كان أنفس.
يقول الفقير : يحتمل عندي أن يكون السندس لباس المقربين.
والإستبرق لباس الأبرار يدل عليه أن شراب المقربين هو التسنيم الخالص وشراب الأبرار هو الرحيق الممزوج به.
وذلك أن المقربين أهل الذات والأبرار أهل الصفات، فكما أن الذات أرق من الصفات، فكذا لباس أهل الذات وشرابهم أرق وأصفى من لباس أهل الصفات وشرابهم، ثم لإن الإستبرق من كلام العجم عرب بالقاف.
قال في "القاموس" : الإستبرق الديباج الغليظ معرب استروه وتصغيره أبيرق وستبر بالتاء والطاء، بمعنى : الغليظ.
بالفارسية.
قال الجواليقي في "المعربات" : نقل الإستبرق من العجمية إلى العربية، فلو حقر، أو كسر لكان في التحقير أبيرق، وبالتكسير أباريق بحذف السين والتاء جميعاً.
انتهى.
والتعريب : جعل العجمي بحيث يوافق اللفظ العربي بتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب.
وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي ؛ لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً إذا
٤٢٩
كان متصرفاً تصرف اللفظ العربي من غير فرق، فمن قال القرآن أعجمي يكفر ؛ لأنه معارضة لقوله تعالى قرآناً عربياً، وإذا قال : فيه كلمة أعجمية، ففي أمره نظر ؛ لأنه إن أراد وقوع الأعجمي فيه بتعريب، فصحيح وإن بلا تعريب فغلط.
﴿مُّتَقَـابِلِينَ﴾ ؛ أي : حال كونهم متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض.
ومعنى متقابلين متواجهين لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم فهم أتم للأنس.
(ودر تفسير سور آبادى أورده كه اين مقابله روز مهمانى باشد در دار الجلال كه حق تعالى همه مؤمنا نرا بر سريك خوان بنشاند وهمه رويهاى يكديكر بينند).
وقال بعضهم : متقابلين بالمحبة غير متدابرين بالبغض والحسد ؛ لأن الله ينزع من صدورهم الغل وقت دخولهم الجنة.
وهذا التقابل من أوصاف أهل الله في الدارين فطوبى لهم حيث أنهم في الجنة وهم في الدنيا.
﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ * كَذَالِكَ وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
﴿كَذَالِكَ﴾ ؛ أي : الأمر كذلك أو أثبناهم إثابة مثل ذلك.
﴿وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ ؛ أي : قرناهم بهن.
وبالفارسية :(وقرين مى سازيم متقيانرا بزنان سفيد روى كشاده جشم).
فيتمتعون تارة بمؤانسة الإخوان ومقابلتهم وتارة بملاعبة النسوان من الحور العين ومزاوجتهن، فليس المعنى حصول عقد التزويج بينهم وبين الحور، فإن التزويج بمعنى العقد لا يتعدى بالباء، كما جاء في التنزيل، ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا﴾ (الأحزاب : ٣٧)، وإذا لم يكن المراد عقد التزويج.
يقال : زوجناك بها بمعنى كنت فرداً فقرناك بها ؛ أي : جعلناك شفعاً بها، والله تعالى جعلهم اثنين ذكراً وأنثى.
وقال في "المفردات" : لم يجىء في القرآن زوجناهم حوراً، كما يقال : زوجته بامرأة تنبيهاً على أن ذلك لم يكن على حسب التعارف فيما بيننا من المناكح.
قال سعدي المفتي : ثم لا يكون العقد في الجنة ؛ لأن فائدته الحل.
والجنة ليست بدار كلفة من تحريم، أو تحليل، انتهى.