وفي الآية إشارة إلى أنهم لا يذوقون فيها موت النفس بسيف المجاهدة، وقمع الهوى وترك الشهوات إلا الموتة الأولى في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر، وكما أن السيف لا يجري على المعدوم، فكذا على النفس الفانية إذ لا يموت الإنسان مرتين، وأيضاً : إن الموتة الأولى هي العدم قبل الوجود فبعد الوجود لا يذوق أحد الموت.
والعدم المحض ؛
٤٣١
لأن الله تعالى قد وهب له الوجود، فلا يرجع عن هبته ؛ فإنه غني وما ورد من أن الحيوانات العجم تصير تراباً يوم القيامة حتى يتمنى الكافر أن يكون مثلها، فذلك ليس بإعدام محض، بل إلحاق بتراب أرض الآخرة.
ويجوز أن يقال : أن وجودات الأشياء الخسيسة لا اعتبار لها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
﴿وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ : الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : حفظهم من النار وصرفها عنهم.
وبالفارسية :(ونكاه ميدارد حق تعالى بهشتيانرا واز ايشان دفع ميكند عذاب دوزخ).
وفيه إشارة إلى عذاب البعد وجحيم الهجران.
﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ﴾.
﴿فَضْلا مِّن رَّبِّكَ﴾ منصوب بمقدر على المصدرية أو الحالية ؛ أي : أعطي المتقون ما ذكر من نعيم الجنة والنجاة من عذاب الجحيم عطاء وتفضلاً منه تعالى لا جزاء للأعمال المعلولة واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار، والفوز بالجنة ونعيمها، فإنما يحصل بفضل الله وإحسانه ؛ وأنه لا يجب عليه شيء من ذلك، ففي إثبات الفضل نفي الاستحقاق، فجميع الكرامات فضل منه على المتقين حيث اختارهم بها في الأول وأخرجها من علل الاكتساب، فإن الاكتساب أيضاً، فضل إذ لو لم يخلق القدرة على كسب الكمالات وتحصيل الكرامات لما وجد العبد إليه سبيلاً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
وفي الحديث :"لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة " ؛ أي : ولا أنا أدخل الجنة بعمل إلا برحمة الله.
وليس المراد به توهين أمر العمل، بل نفي الاغترار به وبيان أنه إنما يتم بفضل الله، فإن ابن الملك في الحديث دلالة على مذهب أهل السنة وحجة على المعتزلة حيث اعتقدوا أن دخولها إنما يحصل بالعمل، وأما قوله تعالى :﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل : ٣٢) ونظائره، فلا ينافي الحديث ؛ لأن الآية تدل على سببية العمل والمنفي في الحديث عليته وإيجابه، انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأظهر في مواقع النجوم : الدخول برحمة الله وقسمة الدرجات بالأعمال والخلود بالنيات، فهذه ثلاثة مقامات، وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله وطبقات عذابها بالأعمال وخلودهم بالنيات، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد المخالفة، كما كانت في السعادة الموافقة، وكذلك من دخل من العاصين النار لولا المخالفة لما عذبهم الله شرعاً نسأل الله لنا وللمسلمين أن يستعملنا بصالح الأعمال ويرزقنا الحياء منه تعالى.
﴿ذَالِكَ﴾ :(آن صرف عذاب وحيات ابدى دربهشت).
﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه، إذ هو خالص من جميع المكاره، ونيل لكل المطالب والفوز الظفر مع حصول السلامة، كما في "المفردات".
يقول الفقير : لما كان الموت وسيلة لهذا الفوز وباباً له ورد الموت تحفة المؤمن.
والموت وإن كان من وجه هلكاً، فمن وجه فوز، ولذلك قيل : ما أحد إلا والموت خير له أما المؤمن، فإنما كان الموت خيراً له ؛ لأنه يتخلص به من السجن ويصل إلى النعيم المقيم في روضات الجنات، وأما المعاصي فلأن الإمهال في الدنيا سبب لازدياد المعاصي والإثم، كما قال تعالى :﴿إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ (آل عمران : ١٧٨)، وهو سبب لازدياد العذاب.
قال الشيخ سعدي :
نكو كفت لقمان كه نازيستن
به از سالها بر خطا زيستن
هم از با مدادان در كلبه بست
به از سود وسرماية دادن زدست
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ﴾ : فذلكة للسورة الكريمة ونتيجة لها، واللسان آلة التكلم في الأصل، واستعير هنا لمعنى اللغة، كما في قوله عليه السلام :"لسان أهل الجاهلية
٤٣٢
العربية".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٠
والمعنى : إنما سهلنا الكتاب المبين حيث أنزلناه بلغتك.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ كي يفهمه قومك ويتذكروا ويعملوا بموجبه وإذا لم يفعلوا ذلك.
﴿فَارْتَقِبْ﴾ فانتظر لما يحل بهم من المقادير، فإن في رؤيتها عبرة للعارفين وموعظة للمتقين.
﴿إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ﴾ منتظرون لما يحل بك من الدوائر، ولم يضرك ذلك، فعن قريب يتحقق أملك وتخيب آمالهم.