منها : أن بعض الناس يسمع آيات الله في الظاهر إذ تتلى عليه ولا يسمعها بسمع الباطن ويتصامم بحكم الخذلان والغفلة، فله عذاب أليم لاستكباره عن قبول الحق، وعدم العمل بموجب الآيات، وكذا إذا سمعها وتلاها بغير حضور القلب :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
تعتيست اين كه بر لهجه وصوت
شوداز تو حضور خاصر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فراموشت
نشود بردل توتا بنده
كين كلام خداست يابنده
ومن استمع بسمع الحق والفهم، واستبصر بنور التوحيد، فاز بذخر الدارين وتصدى لعز المنزلين.
ومنها : أن العالم الرباني إذا أفاد شيئاً من العلم ينبغي أن يكون في حيز القبول، ولا يقابل بالعناد والتأول على المراد من غير أن يكون هناك تصحيح بإسناد، وذلك فإن العبد يكاشف أموراً بتعريفات الغيب لا يتداخله فيها ريب، ولا يتخالجه منها شك فمن استهان بها وقع في ذل الحجاب وجهنم البعد، كما عليه أهل الإنكار في كل الأعصار حيث لا يقبلون أكثر ما ذكره مثل الإمام الغزالي.
والإمام المكي، فيكونون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض بموافقة الأهواء والأغراض.
ومنها : أن القرآن هداية لكن للمقرين لا للمنكرين، فمن أقر بعباراته وإشاراته نجا من الخذلان والوقوع في النيران، ومن أنكرها وقع في عذاب عظيم يذل فيه ويهان.
﴿اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾ بأن جعله أملس السطح يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب، ولا يمنع الغوص والحزق لميعانه فإنه لو جعل خشن السطح بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض، لم يتيسر جري الفلك عليه، وكذا لو جعله بحيث لا تطفو عليه الأخشاب ونحوها،
٤٣٩
بل تسفلت وغرقت فيه، لم يتيسر ذلك أيضاً ولو جعله صلباً مصمتاً يمنع الغوص فيه لم يمكن تحصيل المنافع المترتبة على الغوص.
﴿لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ ؛ أي : بإذنه وتيسيره وأنتم راكبوها ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ بالتجارة والغوص على اللؤلؤ والمرجان ونحوها من منافع البحر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك بالإقرار بوحدانية المنعم بها.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى سخر بحر العدم لتجري فيه فلك الوجود بأمره، وهو أمر كن والحكمة في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك سخر البحر والفلك له وسخره لنفسه ليكون خليفته، ومظهراً لذاته وصفاته نعمة منه وفضلاً لإظهار الكنز المخفي، فبحسب كل مسخر من الجزئيات والكليات يجب على العبد شكره، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره ولا يستعمله في هوى نفسه، وله أن يعتبر من البحر الصوري، والذين يركبون البحر، فربما تسلم سفينتهم، وربما تغرق كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير يمشي به في رياح المشيئة مرفوع له شراع التوكل مرسي في بحر اليقين، فإن هبت رياح العناية نجت السفينة إلى ساحل السعادة، وإن هبت نكباه الفتنة لم يبق بيد الملاح شيء وغرقت في لجة الشقاوة، فعلى العبد أن يبتغي فضل الله ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم، كما في "التأويلات النجمية".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ﴾ من الموجودات بأن جعلها مداراً لمنافعكم ودلت الآية على أن نسبة الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية جائزة.
﴿جَمِيعًا﴾ إما حال من ما في السماوات وما في الأرض أو تأكيد له.
﴿مِنْهُ﴾ صفة لجميعاً ؛ أي : كائناً منه تعالى، أو حال من ما ؛ أي : سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة له أو خبر لمحذوف ؛ أي : هي جميعاً منه تعالى.
وفي "فتح الرحمن" جميعاً منه ؛ أي : كل إنعام فهو من فضله ؛ لأنه لا يستحق عليه أحد شيئاً، بل هو يوجب على نفسه تكرماً.
﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ ؛ أي : فيما ذكر من الأمور العظام ﴿لايَـاتٍ﴾ عظيمة الشأن كبيرة القدر دالة على وجود الصانع وصفاته.
﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في بدائع صنع الله، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويوفقون لشكرها :(دبر جمله جهان زمغز تابوست.
هر ذره كواه قدرت اوست).
روي : أنه عليه السلام مر على قوم يتفكرون، فقال : تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق.
وفي الحديث :"إن الشيطان يأتي أحدكم، فيقول : من خلق السماوات، فيقول الله، ويقول : من خلق الأرض، فيقول الله ويقول : من خلق الله، فإذا افتتن أحدكم بذلك، فليقل آمنت بالله ورسوله، واعلم أن التفكر على العبادات وأفضلها ؛ لأن عمل القلب أعلى وأجل من عمل النفس، ولذلك قال عليه السلام "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".