ولذا يرى بعض أهل الجنة البعض، كما يرى في الدنيا الكوكب الدري، وعن عبيد بن خالد رضي الله عنه : أن النبي آخى بين رجلين، فقتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلوا عليه، فقال عليه السلام : ما قلتم؟ قالوا : دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال النبي عليه السلام، فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله، أو قال : صيامه بعد صيامه لما أن بينهما أبعد مما بين السماء والأرض".
وقد ورد في بعض الأخبار أن الموتى يتأسفون على انقطاع الأعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه، فليحذر العاقل من حسرة السباق، وفجيعة الفراق، أما حسرة السباق فإنهم إذا قاموا من قبورهم، وركب الأبرار نجائب الأنوار وقدمت بين أيديهم نجائب المقربين بقي المسبوق في جملة المحرومين.
وأما فجيعة الفراق، فإنه إذا جمع الله الخلق في مقام واحد أمر ملكاً ينادي : أيها الناس امتازوا، فإن المتقين قد فازوا.
كما قال :﴿وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس : ٥٩)، فيمتاز الولد من والديه، والزوج من زوجته والحبيب من حبيبه، فهذا يحمل مبجلاً إلى رياض النعيم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
وهذا يساق مسلسلاً إلى عذاب الجحيم.
قال بعض الأخيار : رأيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي قدس سره في النوم بعد وفاته وعليه ثياب بيض، وعلى رأسه تاج، فقلت له : ما هذا البياض؟ فقال : شرف الطاعة، قلت : والتاج.
قال عز العلم.
وعن أبي بكر الوراق قدس سره : طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة : وجدنا رضا الله في طاعة الله تعالى، وسعة المعاش في صلاة الضحى، وسلاءة الدين في حفظ اللسان ونور القلب في صلاة الليل، فعليك بالتدارك قبل فوت الوقت، فإن الوقت سيف قاطع.
قال الشيخ سعدي :
سر ازجيب غفلت برآوركنون
كه فردانماني بخلجت نكون
قيامت كه نيكان باعلى رسند
زقعر ثرى بر ثريا رسند
تراخود بماند سر ازننك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادر زكار بدان شرم دار
كه در روى نيكان شوى سر مسار
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ﴾ ؛ أي : بسبب الحق ولأجل ظهوره وحقيقته بالأمر الإيجادي والتجلي الحي الأحذي، فما من ذرة من ذرات العالم، إلا والله سبحانه متجل فيها بأسمائه وصفاته، لكنه لا يشاهده إلا أهل الشهود، وبظهور هذا الحق والوجود زهق الباطل والعدم وعليه يدور سر قوله تعالى :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (يونس : ٣)، فإن الله متعال عن الاستواء بنفسه كما يقول الظالمون.
﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ﴾ من خير وشر عطف على بالحق ؛ لأن فيه التعليل ؛ لأن الباء للسببية وبيانه أن الحكمة في خلق العالم هو الجزاء إذ لو لم يكن الجزاء كما يقول الكافرون لاستوى المطيع والعاصي، فالجزاء مترتب على الطاعة والعصيان، وهما موقوفان على وجود العالم إذ التكليف لا يحصل إلا في هذه الدار.
وقدسبق في سورة الدخان عند قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الدخان : ٣٨).
﴿وَهُمْ﴾ ؛ أي : النفوس المدلول عليها بكل نفس.
﴿لا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب المحسن وزيادة عقاب
٤٤٧
المسيء :(بلكه هر كس رافرا خور عمل اوجز ادهد).
وتسمية ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك على ما عرف من قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى، فهذه الآية إخبار بأن التسوية في الجزاء سفه، والله تعالى خلق العالم بالحق ليتميز المطيع من العاصي لا بالسفه، فلا بد من المجازاة على وفق الأعمال بين عدل وفضل بلا ظلم وجهل، فعليك بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة لا سيما التوحيد وذكر الله تعالى إذ به تحصل المعرفة المقصودة من خلق الثقلين ولفضل المعرفة.
قال عليه السلام في جواب من قال : أي الأعمال أفضل؟ العلم بالله"، وبين معرفة ومعرفة فرق عظيم.
لذلك قال حافظ قبر أبي يزيد البسطامي قدس سره للسلطان محمود الغزنوي إن أبا جهل لم يبصر النبي عليه السلام إلا بأنه يتيم عبد المطلب وأبي طالب، ولو نظر بأنه رسول الله وحبيب رب العالمين وعرف ذلك لآمن به، ولا بد من العبادة من الإخلاص، فمن عبد الله حباً أعلى رتبة ممن عبده خوف العقوبة.
يحكى أن محمدياً عبد الله أربعين سنة يجزى بأكثر من إسرائيلي عبد الله أربعمائة سنة، فيقول الإسرائيلي : يا رب أنت العادل، فيقول الله تعالى أنتم تخافون العقوبة العاجلة وتعبدونني وأمة محمد يعبدونني مع الأمن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
قال المولى الجامي :
جيست اخلاص آنكة كسب وعمل
باك سازى زشوب نفس ودغل
نه در آن صاحب غرض باشى
نه ازان طالب عوض باشى
كيسة خود از وبير دازى
ساية خود برونيندازى
﴿فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾.