وعن ابن عباس رضي الله عنه : جاثية ؛ أي : مجتمعة بمعنى أن كل أمة لا تختلط بأمة أخرى، يقال : جثوت الإبل وجثيتها جمعتها.
والجثوة بالضم الشيء المجتمع، فإن قيل الجثو على الركب إنما يليق بالكافرين، فإن المؤمنين لا خوف عليهم يوم القيامة، فالجواب أن الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذا إلى أن يظهر كونه محقاً مستحقاً للأمن.
قال كعب لعمر أمير المؤمنين رضي الله عنه : إن جهنم تزفر زفرة يوم القيامة، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى يقول : خليل الرحمن عليه السلام يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
قال الشيخ سعدي :
دران روز كز فعل برسند وقول
اولو العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
تو عذر كنه راجه دارى بيا
﴿كُلُّ أُمَّة﴾ كرر كل أمة ؛ لأنه موضع الإغلاظ والوعيد.
(تدعى إلى كتابها أي إلى صحيفة أعمالها فالإضافة مجازية للملابسة ؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه.
وفيه إشارة إلى عجز العباد وأن لا حول ولا قوة لهم فيما كتب الله لهم في الأزل وأنهم
٤٥٣
لا يصيبهم في الدنيا والآخرة، إلا ما كتب الله لهم على مقتضى أعيانهم الثابتة، فلا يجرون في الأفعال إلا على القضاء.
قال الحافظ :
درين جمن نكنم سرزنش بخود رويى
جنانكه برور شم ميد هند ميرويم
﴿الْيَوْمَ﴾ : معمول لقوله :﴿تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؛ أي : يقال لهم ذلك، فمن كان عمله الإيمان جزاه الله بالجنة، ومن كان عمله الشرك والكفر جزاه بالنار، كما قال النبي عليه السلام "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك فيجثيان بين يدي الرب تعالى، فيقول الله للإيمان انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار".
﴿كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾.
﴿هَـاذَا كِتَـابُنَا﴾ إلخ من تمام ما يقال حينئذٍ، وحيث كان كتاب كل أمة مكتوباً بأمر الله أضيف إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره، وإلا فالظاهر أن يضاف إلى الأمة بأن يقال : كتابها كما فيما قبلها.
﴿يَنطِقُ عَلَيْكُم﴾ ؛ أي : يشهد عليكم.
﴿بِالْحَقِّ﴾ ؛ أي : من غير زيادة ولا نقص.
والجملة خبر آخر لهذا وبالحق حال من فاعل ينطق.
﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ﴾ إلخ تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها ؛ أي : كنا فيما قبل نستكتب الملائكة.
﴿مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة صغيرة أو كبيرة ؛ أي : نأمر الملائكة بكتب أعمالكم وإثباتها عليكم ؛ لأن السين للطلب والنسخ في الأصل هو النقل من أصل، كما ينسخ كتاب من كتاب، لكن قد يستعمل للكتبة ابتداء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
وقال بعضهم : ما من صباح ولا مساء إلا وينزل فيه ملك من عند إسرافيل إلى كاتب أعمال كل إنسان ينسخ عمله الذي يعمله في يومه وليلته، وما هو لاق فيها كما قال عليه السلام : أول ما خلق الله القلم وكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول بر أو فجور وأحصاه في الذكر واقرؤوا : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله وكل ملائكة يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظة الله على عباده كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم.
ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان، فإذا أفني الورق مما قدر وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة، فيطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً، فترجع الحفظة فيجدونه قد مات.
ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما : ألستم قوماً عرباً؟ هل يكون الاستنساخ إلا من أصل، وهو اللوح المحفوظ من التغير والتبدل والزيادة والنقصان على ما عليه كان بما كتبه القلم الأعلى، وفيه دليل أن الحفظة يعلمون ما يقع في ذلك اليوم من العبد، ويفعله قبل أن يفعله، فإن قلت : إذا علمت الحفظة أعمال العبد من اللوح المحفوظ، فما فائدة ملازمتهم العبيد وكتابتهم أعمالهم قلت : إلزام الحجة لا يحصل إلا بشهودهم فعل العبد في وقته المخصوص وكتابتهم على ما وقع.
قال بعضهم : إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه ثواب وعقاب أثبت، وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي.
وذلك قوله تعالى :﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ (الرعد : ٣٩)، فعلى العبد أن يتدارك الحال قبل حلول الآجال، فإنه سوف ينفذ العمر وينقلب الأمر.
قال الشيخ سعدي :
دريغست فرموده ديوزشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
روا دارى از جهل
٤٥٤
وناباكيت
كه باكان نويسند نابا كيت
طريقى بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يك لحظه صورت نه بنددامان
جو بيمانه برشد بدور زمان