ومنهم : من كان هلاكه بالقذف وكذا بالمسخ وبالريح وبالصيحة والغرق وبغير ذلك، فنفى عليه السلام علم ما يفعل به وبهم من هذه الوجوه، وعلم من هو الغالب المنصور منه ومنهم، ثم عرفه الله بوحيه إليه عاقبة أمره وأمرهم، فأمره بالهجرة ووعده العصمة من الناس وأمره بالجهاد وأخبر أنه يظهر دينه على الأديان كلها، ويسلط على أعدائه ويستأصلهم.
وقيل : يجوز أن يكون المنفي هي الدراية المفصلة ؛ أي : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل إذ لا علم لي بالغيب كان الإجمال معلوماً، فإن جند الله هم الغالبون، وأن مصير الأبرار إلى النعيم، ومصير الكفار إلى الجحيم.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : والأظهر الأوفق لما ذكر من سبب النزول أن ما عبارة عما ليس في علمه من وظائف النبوة في الحوادث والواقعات الدنيوية دون
٤٦٧
ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة.
وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين.
هذا وقد روي عن الكلبي أن النبي عليه السلام رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر، فأخبر أصحابه، فحسبوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا :
سعد يا حب وطن كرجه حديث است صحيح
نتوان مرد بسختى كه من انجازادم
ومكثوا بذلك ما شاء الله فلم يروا شيئاً مما قال لهم، فقالوا له عليه السلام وقد ضجروا من أذية المشركين حتى متى نكون على هذا؟ فقال عليه السلام : إنها رؤيا رأيتها كما يرى البشر، ولم يأتني وحي من الله، فنزل قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ؛ أي : أؤترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى ما رأيتها في المنام.
يقول الفقير : وعلى هذا يلزم أن يكون خطاب في بكم للمؤمنين، وهو بعيد لما دل عليه ما قبل الآية، وما بعدها من أنه للكفار.
وفي الإشارة إلى فساد أهل القدر والبدع حيث قالوا : إيلام البرايا قبيح في العقل، فلا يجوز ؛ لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعظم البرايا أعلم قطعاً أني رسول الله معصوم، فلا محالة يغفر لي، ولكنه قال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ليعلم أن الأمر أمره والحكم حكمه له أن يفعل بعباده ما يريد ولا يسأل عما يفعل.
وفي "عين المعاني" : وحقيقة الآية البراءة من علم الغيب.
قال المولى الجامي :
اي دل تاكى فضولى وبو العجبي
ازمن جه نشان عافيت مى طلبى
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
سركوشته بود خواه ولى خواه نبى
در وادى ما أدري ما يفعل بي
﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ﴾ ؛ أي : ما أفعل إلا اتباع ما يوحي إلى على معنى قصر أفعاله عليه السلام على اتباع الوحي لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتسارع إلى الأفهام، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب.
وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذية المشركين.
والأول هو الأوفق لقوله تعالى :﴿وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ﴾ : أنذركم عقاب الله حسبما يوحى إلي ﴿مُّبِينٌ﴾ بين الإنذار لكم بالمعجزات الباهرة، ففيه أنه عليه السلام أرسل مبلغاً وليس إليه من الهداية شيء، ولكن الله يهدي من يشاء، وإن علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى، وأما إخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فبواسطة الوحي والإلهام وتعليم الله سبحانه.
ومن هذا القبيل إخباره عليه السلام عن أشراط الساعة، وما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وأخباره عن حال بعض الناس كما قال عليه السلام : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فدخل عبد الله بن سلام، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله، فأخبروه بذلك، وقالوا : لو أخبرتنا بأوثق عملك الذي ترجو به، فقال : إني ضعيف، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني، وعن سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره قال لي خالي السري السقطي : تكلم على الناس ؛ أي : عظهم وكنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت النبي عليه السلام في المنام.
وكان ليلة الجمعة، فقال : تكلم على الناس، فانتبهت وأتيت باب خالي، فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك : أي من جانب الرسول عليه السلام، فقعدت من غد للناس فقعد على غلام نصراني متنكراً في صورة مجهولة.
وقال : أيها الشيخ : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلّم "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، قال : فأطرقت رأسي ورفعت، فقلت : أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام، فهذا إنما وقع بتعريف الله تعالى ؛ أي : للشبلي والجنيد.
٤٦٨
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُا وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْـاًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١


الصفحة التالية
Icon