﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ﴾ : أخبروني أيها القوم.
﴿إِن كَانَ﴾ ما يوحى إليّ من القرآن في الحقيقة ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.
وفي "كشف الأسرار" : أن هنا ليس بشك كقول شعيب، ولو كنا كارهين لو هناك ليس بشك، بل هما من صلات المكارم.
﴿وَكَفَرْتُم بِهِ﴾ ؛ أي : والحال أنكم قد كفرتم به، فهو حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسط بين أجزاء الشرط مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر.
ويجوز أن يكون عطفاً على كان، كما في قوله تعالى :﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ﴾ (فصلت : ٥٢)، لكن لا على أن نظمه في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه عندهم باعتبار حاله في نفسه، بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم، فإن كفرهم به متحق عندهم أيضاً، وإنما ترددهم في أن ذلك كفر بما عند الله أم لا، وكذا الحال في قوله تعالى :﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾ وما بعده من الفعلين، فإن الكل أمور متحققة عندهم، وإنما ترددهم في أنها شهادة وإيمان بما عند الله واستكبار منهم أم لا ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ عظيم الشأن ﴿مِنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾ الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾ ؛ أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد، وغير ذلك، فإنها عين ما فيه في الحقيقة كما يعرب عنه قوله تعالى :﴿وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ﴾ (الشعراء : ١٩٦).
وقيل : المثل صلة، يعني عليه ؛ أي : يشهد شاهد على أنه من عند الله.
﴿فَـاَامَنَ﴾ : الفاء للدلالة على أنه سارع في الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، وليس من كلام البشر.
﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ : عطف على شهد شاهد وجواب الشرط محذوف.
والمعنى : أخبروني إن كان من عند الله.
وشهد على ذلك أعلم بني إسرائيل فآمن به من غير تلعثم واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة من أضل منكم بقرينة قوله تعالى :﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ﴾ (فصلت : ٥٢).
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ﴾ الذي يضعون الجحد والإنكار موضع الإقرار والتسليم وصفهم بالظلم للإشعار بعلية الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم وعنادهم بعد وضوح البرهان.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لهم بحال إذ عند وجود الشاهد على حقية الدعوى تبطل الخصومة، وذلك الشاهد في الآية عبد الله بن سلام بن الحارث حبر أهل التوراة، وكان اسمه الخصين، فسماه رسول الله عبد الله رضي الله عنه لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أتاه، فنظر إلى وجهه الكريم، فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له : إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه، فقال عليه السلام : أما أول أشراط الساعة، فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته.
فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً، ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاء اليهود، وهم خمسون، فقال لهم النبي عليه السلام :"أي رجل عبد الله فيكم" قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال :"أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا : أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً
٤٦٩
رسول الله، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله عليه السلام يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
وفيه نزل وشهد شاهد إلخ.
وقال مسروق رضي الله عنه، والله ما نزلت في عبد الله، فإن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بالمدينة وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية، وإن كانت السورة مكية، فوضعت في السورة المكية على ما أمر رسول الله عليه السلام.
وفي الآية إشارة إلى التوفيق العام، وهو التوفيق إلى الإيمان بالله وبرسوله، وما جاء به، وأما التوفيق الخاص، فهو التوفيق إلى العمل بالعلم المشروع الذي ندبك الشارع إلى الاشتغال بتحصيله سواء كان العمل فرضاً أم تطوعاً وغاية العمل والمجاهدات والرياضات تصفية القلب والتخلق بالأخلاق الإلهية والوصول إلى العلوم الذوقية، فالإيمان بالله وبالأنبياء والأولياء أصل الأصول، كما أن الإنكار والاستكبار سبب الحرمان والخذلان، فإن أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم.


الصفحة التالية
Icon