وفي "آكام المرجان" : في أحكام الجان اختلف العلماء في مؤمني الجن، هل يدخلون الجنة على أقوال أحدها؟ إنهم يدخلونها، وهو قول جمهور العلماء.
ثم اختلف القائلون بهذا القول إذا دخلوا الجنة هل يأكلون فيها ويشربون؟ فعن الضحاك : يأكلون ويشربون، وعن مجاهد أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة؟ قال : يدخلونها، ولكن لا يأكلون ولا يشربون، بل يلهمون التسبيح والتقديس، فيجدون فيه ما يجده أهل الجنة من لذة الطعام والشراب، وذهب الحارث المحاسبي إلى أن الجن الذين يدخلون الجنة يكونون يوم القيامة بحيث نراهم ولا يروننا عكس ما كانوا عليه في الدنيا.
والقول الثاني : أنهم لا يدخلونها، بل يكونون في ربضها ؛ أي : ناحيتها وجانبها يراهم الإنس من حيث لا يرونهم.
والقول الثالث : أنهم على الأعراف كما جاء في الحديث :"أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد هم على الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار".
ذكره صاحب "الفردوس الكبير".
وقال الحافظ الذهبي : هذا حديث منكر جداً.
وفي الحديث :"خلق الله الجن ثلاثة أصناف صنفاً حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنفاً كالريح في الهواء وصنفاً عليه الثواب والعقاب، وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف : صنفاً كالبهائم، كما قال تعالى :﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ إلى قوله :﴿أولئك كَالانْعَـامِ﴾ (الأعراف : ١٧٩)، الآية.
وصنفاً أجسادهم كأجساد بني آدم وأرواحهم كأرواح الشياطين وصنفاً في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله".
رواه أبو الدرداء رضي الله عنه.
والقول الرابع : التوقف.
٤٩١
واحتج أهل القول الأول بوجوه الأول العمومات كقوله تعالى :﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقوله عليه السلام من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً دخل الجنة، فكما أنهم يخاطبون بعمومات الوعيد بالإجماع، فكذلك يخاطبون بعمومات الوعد بالطريق الأولى، ومن أظهر حجة في ذلك قوله تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ * فَبِأَىِّ﴾ () إلى آخر السورة.
والخطاب للجن والإنس فامتن عليهم بجزاء الجنة ووصفها لهم وشوقهم إليها، فدل ذلك على أنهم ينالون ما امتن عليهم به إذا آمنوا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
وقد جاء في حديث : أن رسول الله عليه السلام قال لأصحابه لما تلا عليهم هذه السورة :"الجن كانوا أحسن رداً منكم ما تلوت عليهم من آية إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب".
والثاني : ما استدل به ابن حزم من قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا﴾ (البينة : ٧ ـ ـ ٨) إلى آخر السورة.
قال : وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين، ومن المحال أن يكون الله يخبرنا بخبر عام، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين لنا ذلك هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله لنا، فكيف، وقد نص على أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة.
والثالث : سبق من خبر الطمث.
والرابع : ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخلق أربعة، فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار، فأما لذين في الجنة كلهم، فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم، فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار، فالإنس والجن لهم الثواب، وعليهم العقاب.
والخامس : أن العقل يقوي ذلك وإن لم يوجبه، وذلك أن الله سبحانه قد أوعد من كفر منهم وعصى النار، فكيف لا يدخل من أطاع منهم الجنة، وهو سبحانه الحكم العدل، فإن قيل : قد أوعد الله من قال من الملائكة : إني إله من دونه بالنار، ومع هذا ليسوا في الجنة في الجواب أن المراد بذلك إبليس دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت الآية فيه، وهي ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم، وأيضاً أن ذلك وإن سلمنا إرادة العموم منه، فهذا لا يقع من الملائكة، بل هو شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، وهو نظير قوله : إن أشركت ليحبطن عملك، والجن يوجد منهم الكافر، فيدخل النار.
واحتج أهل القول الثاني بقوله تعالى :﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ إلخ.
حيث لم يذكر دخول الجنة، فدل على أنهم لا يدخلونها.
والجواب : أنه لا يلزم من سكوتهم أو عدم علمهم بدخول الجنة نفيه.
وأيضاً : إن الله أخبر أنهم ولوا إلى قومهم منذرين فالمقام مقام الإنذار لا مقام بشارة.
وأيضاً : إن هذه العبارة لا تقتضي نفي دخول الجنة ؛ لأن الرسل المتقدمين كانوا ينذرون قومهم بالعذاب، ولا يذكرون دخول الجنة ؛ لأن التخويف بالعذاب أشد تأثيراً من الوعد بالجنة، كما أخبر عن نوح في قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ (هود : ٢٦)، وعن هود ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الشعراء : ١٣٥)، وعن شعيب ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ (هود : ٨٤)، وكذلك غيرهم، وأيضاً : إن ذلك يستلزم دخول الجنة ؛ لأن من غفر ذنوبه وأجير من العذاب، وهو مكلف بشرائع الرسل، فإنه يدخل الجنة.


الصفحة التالية
Icon