جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
وقد سبق دليل القول الثالث والرابع والعلم عند الله الملك المتعال وإليه المرجع والمآل.
﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ : الهمزة للإنكار، والواو : للعطف على مقدر يستدعيه المقام والرؤية قلبية ؛ أي : ألم يتفكروا، ولم يعلموا علماً جازماً، في حكم المشاهدة والعيان.
﴿أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ ابتداء من غير مثال ﴿وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ ؛ أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً، أو لم يعجز عنه يقال : عييت بالأمر
٤٩٢
إذا لم تعرف وجهه وأعييت تعبت.
وفي "القاموس" : أعيى الماشي كل.
وفي "تاج المصادر" : العي بكسر العين :(اندر ماندن).
والماضي : عيى وعي.
والنعت : عيي على فعيل وعى على فعل بالفتح، والإعياء :(درماندن ومانده شده ودررفتن ومانده كردن).
وأعيى عليه الأمر.
انتهى.
وحكي في سبب تعلم الكسائي النحو على كبره أنه مشى يوماً حتى أعيى، ثم جلس إلى قوم ليستريح، فقال : قد عييت بالتشديد بغير همزة، فقالوا له : لا تجالسنا وأنت تلحن.
قال الكسائي : وكيف قالوا إن أردت من التعب؟ فقل : أعييت وإن أردت من انقطاع الحيلة والتعجيز في الأمر، فقل : عييت مخففاً، فقام من فوره وسأل عمن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذ، فلزمه حتى نفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد.
يقول الفقير : الظاهر أن المراد بالعي هنا اللغوب الواقع في قوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ (ق : ٣٨) والقرآن يفسر بعضه بعضاً فالإعياء مرفوع محال ؛ لأنه لو كان لاقتضى ضعفاً واقتضى فساداً ﴿بِقَـادِرٍ﴾ خبر أن ووجه دخول الباء اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على أن وما في حيزها ؛ كأنه قيل : أوليس الله بقادر ﴿عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى﴾ ولذا أجيب عنه بقوله :﴿بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ تقريراً للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود يعني أن الله تعالى إذا كان قادراً على كل شيء كان قادراً على إحياء الموتى ؛ لأنه من جملة الأشياء وقدرته تعالى لا تختص بمقدور دون مقدور فبلى يختص بالنفي ويفيد إبطاله على ما هو المشهور، وإن حكى الرضي عن بعضهم أنه جاز استعمالها في الإيجاب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦١
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ ؛ أي : يعذبون بها، كما سبق في هذه السورة، ويوم ظرف عامله قول مضمر ؛ أي : يقال لهم يومئذٍ ﴿أَلَيْسَ هَـاذَا﴾ العذاب الذي ترونه ﴿بِالْحَقِّ﴾ ؛ أي : حقاً وكنتم تكذبون به، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : وما نحن بمعذبين ﴿قَالُوا بَلَى﴾ ؛ أي : إنه الحق ﴿وَرَبُّنَا﴾ وهو الله تعالى أكدوا جوابهم بالقسم ؛ لأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيته، كما في الدنيا وأنى لهم ذلك.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى، أو خازن النار ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ ؛ أي : أحسوا به إحساس الذائق المطعوم ﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ به في الدنيا.
والباء للسببية، ومعنى الأمر الإهانة بهم والتوبيخ لهم على ما كان في الدنيا من الكفر والإنكار لوعد الله ووعيده.
قال ابن الشيخ : الظاهر أن صيغة الأمر لا مدخل لها في التوبيخ، وإنما هو مستفاد من قوله : بما كنتم تكفرون.
وفي الآية إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا معذبين بعذاب البعد والقطيعة، وإفساد الاستعداد الأصلي لقبول الكمالات وبلوغ القربات، ولكن ما كانوا يذوقون مرارة ذلك العذاب وحرقته لغلبة الحواس الظاهرة، وكلالة الحواس الباطنة، كما أن النائم لا يحس قرص النملة وعض البرغوث، وهنا ورد :"الناس نيام فإذا ماتوا تيقظوا".
واعلم كما أن الموت حق واقع لا يستريبه أحد، فكذا الحياة بعد الموت ولا عبرة بإنكار المنكر، فإنه من الجهل وإلا فقد ضرب الله له مثلاً بالتيقظ بعد النوم، ولذا ورد النوم أخو الموت.
ثم إن الحياة على أنواع : حياة في الأرحام ينفخ الله الروح، وحياة في القبور بنفخ إسرافيل في الصور وحياة للقلوب بالفيض الروحاني وحياة للأرواح بالسر الرباني ولن يتخلص أحد من العذاب الروحاني والجسماني إلا بدخول جنة الوصل الإلهي الرباني، وهو إنما يحصل
٤٩٣


الصفحة التالية
Icon