﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ عبر عن المؤمنين بالمتقين إيذاناً بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات عن آخرها ومثلها وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : مثل الجنة الموعودة للمؤمنين وصفتها العجيبة الشأن ما تسمعون فيما يتلى عليكم.
وقوله :﴿فِيهَآ﴾ ؛ أي : في الجنة الموعودة إلى آخره مفسر له.
﴿أَنْهَـارٌ﴾ جمع نهر بالسكون، ويحرك مجرى الماء الفائض.
﴿مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ﴾ من أسن الماء بالفتح من باب ضرب، أو نصر أو بالكسر إذا تغير طعمه وريحه تغيراً منكراً في "عين المعاني" من أسن غشي عليه من رائحة البئر.
وفي "القاموس" : الآسن من الماء الأجن ؛ أي : المتغير الطعم واللون.
والمعنى : من ماء غير متغير الطعم والرائحة واللون، وإن طالت إقامته بخلاف ماء الدنيا، فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه، وفي أوانيه مع أنه مختلف الطعوم مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها، وقد يكون متغيراً بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه كذا في المناسبات.
يقول الفقير : قد صح أن المياه كلها تجري من تحت الصخرة في المسجد الأقصى، فهي ماء واحد في الأصل عذب فرات سائغ للشاربين، وإنما يحصل التغير من المجاري، فإن طباعها ليست متساوية دل عليها قوله تعالى :﴿وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ﴾ وتجاور أجزائها لا يستلزم اتحادها في نفس الأمر، بل هي متجاورة مختلفة، ومثلها العلوم، فإنها إذا مرت بطبع غير مستقيم تتغير عن أصلها، فتكون في حكم الجهل، ومن هذا القبيل علوم جميع أهل الهوى والبدع والضلال.
﴿وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ بأن كان قارصاً، وهو الذي يقرص اللسان ويقبضه أو حازراً بتقديم الزاي، وهو الخامض أو غير ذلك، كألبان الدنيا.
والمعنى : لم يتغير طعمه بنفسه عن أصل خلقته، ولو أنهم أرادوا تغييره بشهوة اشتهوها تغير.
﴿وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ﴾ وهو ما أسكر من عصير العنب، أو عام أي لكل مسكر، كما في "القاموس".
﴿لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ﴾ : أما تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب وطبيب، أو مصدر نعت به ؛ أي : لذيذة ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار، كما في خمر الدنيا، وإنما هي تلذذ محض.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
قال الحافظ :
مادر بياله عكس رخ يار ديده ايم
اى بى خبرز لذت شرب مدام ما
يقول الفقير :
باده جنت مثال كوثرست اى هوشيار نيست
اندر طبع كوثر آفت سكر وخمار
﴿وَأَنْهَـارٌ مِّنْ عَسَلٍ﴾ هو لعاب النحل وقيئه، كما قال ظهير الفارابي :
بدان غرض كه دهن خوش كنى زغايت حرص
نشته مترصد كه في كندزنبور
وعن علي رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحلة وظاهر هذا أنه من غير الفم.
قال في "حياة الحيوان" : وبالجملة أنه يخرج من بطون النحل، ولا ندري أمن فمها أم من غيره،
٥٠٦
وقد سبق جملة النقل في سورة النحل.
﴿مُّصَفًّى﴾ لا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها خلقه الله مصفى لا أنه كان مختلطاً، فصفي.
قال بعضهم في الفرق بين الخالص والصافي : إن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا يشوب فيه فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ من أشربة الدنيا ؛ لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصها، أو ينغصها مع الوصف بالغزارة والاستمرار، وبدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلاد العرب وشدة حاجتهم إليها، ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه بقوله : غير آسن، ولما كان اللبن أقل، فكان جريه أنهاراً أغرب ثنى به، ولما كان الخمر أعز ثلث به، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به.
قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة.
ونهر الفرات : نهر لبنهم.
ونهر مصر : نهر خمرهم، ونهر سيحان : نهر عسلهم.
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس هنا مما في الجنة سوى الأسامي.
قال كعب : قلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف أنهار الجنة، فقال : على حافاتها كراسي وقباب مضروبة وماؤها أصفى من الدمع، وأحلى من الشهد وألين من الزبد، وألذ من كل شيء، فيه حلاوة عرض كل نهر مسيرة خمسمائة عام، تدور تحت القصور والحجال لا يرطب ثيابهم، ولا يوجع بطونهم، وأكبر أنهارها : نهر الكوثر، طينه المسك الأذفر وحافتاه الدر والياقوت.
قال الكاشفي :(ارباب اشارات كفت اندكه جنانجه أنهار اربعة درزمين بهشت بزير شجرة طوبى روانست جهار جوى نيزدر زمين دل عارف درزير شجرة طيبه أصلها ثابت وفرعها في السماء جاريست ازمنبع قلب آب انابت واز ينبوع صدر لبن صفوت واز خمخانة سر خمر محبت واذ حجر روح عسل مودت).
وفي المثنوي :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
آب صبرت جوى آب خلد شد
جوى شير خلد مهر تست وود
ذوق طاعت كشت جوى انكبين
مستى وشوق توجوى خمر بين