﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ ؛ أي : المنافقون، فإن النفاق مرض قلبي كالشك ونحوه.
﴿أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ﴾، فأم منقطعة وأن مخففة من أن والأضغان جمع ضغن بالكسر، وهو الحقد، وهو إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها وبه شبه الناقة، فقالوا : ذات ضغن.
والمعنى : بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن لن يخرج الله أحقادهم، ولن يبرزها لرسول الله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورة ؛ أي : أن ذلك مما يكاد يدخل تحت الاحتمال.
وفي بعض الآثار : لا يموت ذو زيغ في الدين حتى يفتضح، وذلك لأنه كحامل الثوم، فلا بد من أن تظهر رائحته، كما أن الثابت في طريق السنة كحامل المسك إذ لا يقدر على إمساك رائحته.
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خودفاش كردد ببوى
﴿وَلَوْ نَشَآءُ﴾ إراءتهم.
وبالفارسية :(واكر ماخواهيم).
﴿لارَيْنَـاكَهُمْ﴾ لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية.
﴿فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُمْ﴾ بعلامتهم التي نسمهم بها.
قال في "القاموس" : السومة بالضم، والسمية والسيما والسيميا بكسرهن العلامة وذكر في السوم.
وعن أنس رضي الله عنه ما خفي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم.
ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكون فيهم الناس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى وجه كل منهم مكتوب هذا منافق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
وفي "عين المعاني" : وعلى جبهة كل واحد مكتوب كهيئة الوشم : هذا منافق واللام لام الجواب كررت في المعطوف للتأكيد والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة.
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ : اللام جواب قسم محذوف ولحن القول فحواه، ومعناه وأسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية، يعني :(بشناسى توايشازا در كردانيدن سخن از صوب صواب بجهت تعريض وتوريت).
ومنه قيل للمخطىء لاحن لعدله بالكلام عن سمت الصواب.
وفي الحديث :"لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" أي أذهب بها في الجهات.
قال في "المفردات" : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، إما بإزالة الإعراب أو التصحيف، وهو المذموم، وذلك أكثر استعمالاً، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود من حيث البلاغة عند أكثر الأدباء، وإليه قصد بقول الشاعر، فخير الأحاديث ما كان
٥٢٠
لحناً، وإياه قصد بقوله : ولتعرفنهم في لحن القول، ومنه قيل : للفطنة لما يقتضي فحوى الكلام لحن.
انتهى.
وفي "المختار" : اللحن : الخطأ في الإعراب، وبابه قطع، واللحن بفتح الحاء الفطنة، وقد لحن من باب طرب.
وفي الحديث :"لعل أحدكم ألحن بحجته" ؛ أي : أفطن بها.
انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب، ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب.
قال بعض الكبار : الأكابر والسادات يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه ؛ لأن الله يقول : ولتعرفنهم في لحن القول ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ﴾، فيجازيكم بحسب قصدكم، وهذا وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين.
وفي الآية إشارة إلى أن من مرض القلوب الحسبان الفاسد والظن الكاذب، فظنوا أن الله لا يطلع على خبث عقائدهم، ولا يظهره على رسوله، وليس الأمر كما توهموه، بل الله فضحهم وكشف تلبيسهم بالإخبار والتعريف مع أن المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف ينظر بنور التحقيق، والنبي عليه السلام ينظر بالله، فلا يستتر عليه شيء، فالأعمال التي تصدر بخيانة النيات لها شواهد عليها، كما سئل سفيان بن عيينة رحمه الله، هل يعلم الملكان الغيب؟ فقال : لا، فقيل له : فكيف يكتبان ما لا يقع من عمل القلب؟ فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه إذا هم العبد بحسنه فاح من فيه رائحة المسك، فيعلمون ذلك، فيكتبونها حسنة، فإذا هم بسيئة استقر عليها قلبه فاح منه ريح النتن، ففي كل شيء شواهد ألا ترى أن الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله كان إذا قدم له طعام فيه شبهة، ضرب عرقه على أصبعه وكأم أبي يزيد السبطامي رحمهما الله ما دامت حاملاً بأبي يزيد لا تمتد يدها إلى طعام حرام، وآخر ينادي، ويقال له : تورع وآخر يأخذه الغثيان، وآخر يصير الطعام أمامه دماً، وآخر يرى عليه سواداً، وآخر يراه خنزيراً إلى أمثال هذه المعاملات التي خص الله بها أولياءه وأصفياءه، فعليك بالمراقبة مع الله والورع في المنطق، فإنه من الحكمة، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦