﴿وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ﴾ جمع الأعلى بمعنى، الأغلب أصله : أعليون فكرهوا الجمع بين أخت الكسرة والضمة ؛ أي : الأغلبون.
وقال الكلبي : آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وهي جملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء، وكذا قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾، فإن كونهم الأغلبين وكونه تعالى معهم ؛ أي : ناصرهم في الدارين من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة، وكذا توفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يعرب عنه قوله تعالى :﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ﴾ :(الوتر كم وضائع كردن) ؛ أي : ولن يضيعها من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم، فأفردته منه من الوتر الذي هو الفرد.
وفي "القاموس" : وتر الرجل أفزعه وأدركه بمكروه ووتره ماله نقصه إياه انتهى، وعبر عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة أبرز الغاية اللطف بتصوير الصواب بصورة الحق المستحق، وتنزيل ترك الإثابة بمنزلة إضاعة
٥٢٣
أعظم الحقوق وإتلافها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
وفي الحديث :"إنما هي أعمالكم ثم أؤديكم إياها"، وهي ضمير القصة، يعني ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم، ثم أؤديه إليكم وافية كاملة.
وعن أبي ذر رضي الله عنه رفعه يقول الله تعالى : إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي، فلا تظالموا، فإذا كان الله منزهاً عن الظلم ونقص جزاء الأعمال، فليطلب العبد نفساً، بل لا ينبغي له أن يطلب الأجر ؛ لأن الله تعالى أكرم الأكرمين، فيعطيه فوق مطلوبه :
توبندكى جو كدايان بشرط مزدمكن
كه دوست خود روش بنده برورى داند
وفي المثنوي :
عاشقانرا شادمانى وغم اوست
دست مزد واجرت خدمت هم اوست
غير معشوق از تماشايى بود
عشق نبود هرزه سودايى بود
عشق آن شعله است كوجون بر فروخت
هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت
قال أبو الليث رحمه الله في "تفسيره" : وفي الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين لا ينبغي أن يجيبوهم إلى الصلح ؛ لأن فيه ترك الجهاد، وإن لم تكن يدهم عالية، فلا بأس بالصلح لقوله تعالى :﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال : ٦١) ؛ أي : وإن مالوا إلى الصلح، فمل إليه، وكذا قال غيره.
هذا نهي للمسلمين عن طلب صلح الكافرين.
قالوا : هو دليل على أنه عليه السلام لم يدخل مكة صلحاً ؛ لأنه نهى عن الصلح.
وكذا قال الحدادي في "تفسيره" في سورة النساء : لا يجوز مهادنة العدو وترك أحد منهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم ؛ لأن حظر الموادعة كان بسبب القوة، فإذا زال السبب زال الخطر.
انتهى.
والجمهور : على أن مكة فتحت عنوة ؛ أي : قهراً لا صلحاً لوقوع القتال بها، ولو كان صلحاً لما قال عليه السلام :"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" إلى آخر الحديث.
﴿إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا﴾ عند أهل البصيرة ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ باطل وغرور لا اعتبار بها ولا ثبات لها إلا أياماً قلائل.
وبالفارسية :(جزاين نيست كه زندكانى دنيا بازيست نابايدار ومشغولى بى اعتبار) يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً، واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
وفي الخبر أن الله تعالى خلق ملكاً وهو يمد لا إله من أول الدنيا، فإذا قال : إلا الله قامت القيامة.
وفيه إشارة إلى أن الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها لا وجود لها في الحقيقة، وإنما هي أمر عارض زائل، والله هو الأزلي الأبدي ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا﴾ أيها الناس بما يجب به الإيمان ﴿وَتَتَّقُوا﴾ عن الكفر والمعاصي ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ ؛ أي : ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
وفي الآية حث على طلب الآخرة العلية الباقية وتنفير عن طلب الدنيا الدنية الفانية :
مكن تكيه بر ملك وجاه وحشم
كه بيش از تو بودست وبعد از توهم
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حسرت خورى
﴿وَلا يَسْـاَلْكُمْ﴾ ؛ أي : الله تعالى ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾ الجمع المضاف من صيغ العموم، فالمراد : جميع أموالكم بحيث يخل أداؤها بمعاشكم، إنما اقتصر على شيء قليل منها، وهو ربع العشر، أو العشر تؤدونها إلى فقرائكم، فطيبوا بها نفساً.


الصفحة التالية
Icon