من غيره ما يحب أن يستر منه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم "من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة".
والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الإساءة بمعزل، وعن هذا الوصف، وإنما المتصف به من لا يفشي من خلق الله إلا أحسن ما فيهم، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبح وحسن، فمن تغافل عن المقابح، وذكر المحاسن، فهو ذو نصيب من هذا الاسم والوصف كما روي عن عيسى عليه السلام أنه مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه، فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة، فقال عيسى عليه السلام : ما أحسن بياض أسنانها تنبيهاً على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هوأحسنه.
قال الشيخ سعدي :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
مكن عيب خلق اي خردمند فاش
بعيب خود از خلق مشغول باش
جو باطل سرايند نمكمار كوش
جو بى ستر بينى نظر رابيوش
﴿خَلَقَكُم﴾ ؛ أي : الله تعالى أيها الناس جميعاً ﴿مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هي نفس آدم عليه السلام.
﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا﴾ ؛ أي : خلق من جنس تلك النفس واحدة، أو من قصيراها، وهي الضلع التي تلي الخاصرة، أو هي آخر الأضلاع.
وبالفارسية :(ازاستخوان بهلوى جب)، أو ﴿زَوْجَهَا﴾ حواء عليها السلام، وثم عطف على محذوف هو صفة لنفس ؛ أي : من نفس واحدة خلقها، ثم جعل منها زوجها، فشفعها وذلك، فإن ظاهر الآية يفيدان خلق حواء بعد خلق ذرية آدم، وليس كذلك.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة هي الروح، وخلق منها زوجها وهو القلب، فإنه خلق من الروح كما خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام، فالله تعالى متفرد بهذا الخلق مطلقاً، فينبغي أن يعرف ويعبد بلا إشراك.
﴿وَأَنزَلَ لَكُم﴾ ؛ أي : قضى وقسم لكم، فإن قضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث تكتب في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم وأنشأ بأسباب نازلة من السماء كالأمطار وأشعة الكواكب.
وهذا كقوله : قد أنزلنا عليكم لباساً، ولم ينزل اللباس نفسه، ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف واللباس منهما.
﴿مِّنَ الانْعَـامِ﴾ (از جهار بايان).
﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ ذكراً وأنثى، هي الإبل والبقر والضأن والمعز والأنعام جمع نعم بفتحتين، وهي جماعة الإبل في الأصل لا واحد لها من لفظها.
قال ابن الشيخ في أول المائدة : الأنعام مخصوص بالأنواع الأربعة، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز، ويقال لها : الأزواج الثمانية ؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه وأنثاه زوج بذكره، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين والخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام.
قال في "بحر العلوم" الواحد إذا كان وحده، فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً، فهي زوجان بدليل قوله تعالى : خلق الزوجين الذكر والأنثى، وعند الحساب الزوج خلاف الفرد كالأربعة والثمانية في خلاف الثلاثة والسبعة.
وخصصت هذه الأنواع الأربعة بالذكر لكثرة الانتفاع بها من اللحم والجلد والشعر والوبر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفي "التأويلات النجمية" : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ؛ أي : خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات، وهي الأكل والشرب والتغوط والتبول والشهوة والحرص والشره
٧٤
والغضب.
وأصل جميع هذه الصفات الصفتان الاثنتان : الشهوة والغضب، فإنه لا بدّ لكل حيوان من هاتين الصفتين لبقاء وجوده بهما فبالشهوة يجلب المنافع إلى نفسه وبالغضب يدفع المضرات.
﴿يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ﴾ ؛ أي : في أرحامهن جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق.
﴿خَلْقًا﴾ كائناً ﴿مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ﴾ ؛ أي : خلقاً مدرجاً حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ مخلقة من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح : ١٤).
﴿فِى ظُلُمَـاتٍ ثَلَـاثٍ﴾ متعلق بيخلقكم، وهي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، وهي بالفتح محل الولد ؛ أي : الجلد الرقيق المشتمل على الجنين، أو ظلمة الصلب أو البطن والرحم.
وفيه إشارة إلى ظلمة الخلقية وظلمة وجود الروح وظلمة البشرية، وإن شئت قلت : ظلمة الجسد وظلمة الطبيعة وظلمة النفس، فكما أن الجنين يخرج في الولادة الأولى من الظلمات المذكورة إلى نور عالم الملك والشهادة، فكذا السالك يخرج في الولادة الثانية من الظلمات المسطورة إلى نور عالم الملكوت والغيب في مقام القلب والروح.
قال الحافظ :
بال بكشا وصفير از شجر طوبى زن
حيف باشد جو تومر غى كه اسير قفسى
﴿ذَالِكُمُ﴾ إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة ومحله الرفع على الابتداء ؛ أي : ذلكم العظيم الشأن الذي عدت أفعاله.
﴿اللَّهَ﴾ خبره.
وقوله تعالى :﴿رَبِّكُمْ﴾ خبر آخر له ؛ أي : مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به.


الصفحة التالية
Icon