واعلم أن الرضا ترك السخط، والله تعالى لا يترك السخط في حق الكافر، لأنه لسخطه عليه أعدَّ له جهنم، ولا يلزم منه عدم الإرادة إذ ليس في الإرادة ما في الرضا من نوع استحسان، فالله تعالى مريد الخير والشر، ولكن لا يرضى بالكفر والفسوق، فإن الرضا إنما يتعلق بالحسن من الأفعال دون القبيح، وعليه أهل السنة، وكذا أهل الاعتزال.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين ذكرهم في قوله :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ (الحجر : ٤٢)، فيكون عاماً مخصوصاً كقوله :﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٦)، يريد بعض العباد، وعليه بعض الماتريدية حيث قالوا : إن الله يرضى بكفر الكافر ومعصية العاصي، كما أنه يريدهما صرح بذلك الخصاف في "أحكام القرآن".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
ونقل أن هشام بن عبد الملك إنما قتل غيلان القدري بإشارة علماء الشام بقوله : إن الله لا يرضى، فلا يكون إلهاً، وإن قدر فلم يدفع يكون راضياً فأفحم غيلان.
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإن قيل : هل يقولون بأن كفر الكافر قد رضيه الله تعالى للكافر.
قلنا : إن الله تعالى خلق كفر الكافر ورضيه له
٧٦
وخلق إيمان المؤمن، ورضيه له وهو مالك الملك على الإطلاق.
وتكلف بعض أهل الأصول، فقال : إن الله تعالى لا يرضى بكون الكفر حسناً وديناً، لأنه تعالى يرضى وجوده، وهو حسن، ولا يخلقه، وهو حسن، وعلى هذا معنى قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة : ٢٠٥).
والأليق بأهل الزمان، والأبعد عن التشنيع، والأقرب أن لا يرضى من عباده الكفر مؤمناً كان أو كافراً.
يقول الفقير : إن رضى الله بكفر الكافر ومعصية العاصي اختياره وإرادته له في الأزل، فلذا لم يتغير حكمه في الأبد لا مدحه وثناؤه وترك السخط عليه فارتفع النزاع، ومن تعمق في إشارة قوله تعالى :﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (هود : ٥٦).
انكشف له حقيقة الحال.
﴿وَإِن تَشْكُرُوا﴾ تؤمنوا به تعالى وتوحدوه يدل عليه ذكره في مقابلة الكفر.
﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أصله يرضاه على أن الضمير عائد إلى الشكر حذف الألف علامة للجزم، وهو باختلاس ضمة الهاء عند أهل المدينة وعاصم وحمزة، وبإسكان الهاء عند أبي عمرو، وبإشباع ضمة الهاء عند الباقين، لأنها صارت بخلاف الألف موصولة بمتحرك.
والمعنى : يرضى الشكر والإيمان لأجلكم ومنفعتكم ؛ لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني : لا يرضى لكفركم ؛ لأنه موجب للعذاب الشديد ويرضى لشكركم ؛ لأنه موجب لمزيد النعمة، وذلك لأن رحمته سبقت غضبه يقول : يا مسكين أنا لا أرضى لك أن لا تكون لي يا قليل الوفاء كثير التجني، فإن أطعتني شكرتك وإن ذكرتني ذكرتك.
﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلاً.
والوزر : الحمل الثقيل ووزره ؛ أي : حمله.
والمعنى : ولا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى من الذنب والمعصية (بلكه هريك بردارنده وزر خود بردارد جنانكه كناه كسى دردفتر ديكر نمى نويسند) :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
كه كناه دكران
برتو نخواهند نوشت
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ﴾ ؛ أي : رجوعكم بالبعث بعد الموت لا إلى غيره.
﴿فَيُنَبِّئُكُم﴾ عند ذلك.
وبالفارسية :(بس خبر دهد شمارا).
﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؛ أي : بما كنتم تعملونه في الدنيا من أعمال الكفر والإيمان ؛ أي : يجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً كما قال الكاشفي.
(واخبار از آن بمحاسبه ومجازات باشد).
وفي "تفسير أبي السعود" في غير هذا المحل عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم، تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته ؛ أي : يظهر لكم على رؤوس الأشهاد ويعلمكم ؛ أي شيء شنيع كنتم تفعلونه في الدنيا على الاستمرار، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء.
﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
تعليل للتنبئة ؛ أي : مبالغ في العلم بمضمرات القلوب، فكيف بالأعمال الظاهرة، وأصله عليم بمضمرات صاحبة الصدور.
وفي الآية دليل على أن ضرر الكفر والطغيان يعود إلى نفس الكافر، كما أن نفع الشكر والإيمان يعود إلى نفس الشاكر، والله غني عن العالمين كما وقع في الكلمات القدسية :"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم" ؛ أي : على تقوى أتقى قلب رجل "ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
وفي آخر الحديث، فمن وجد خيراً، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه.
٧٧