وذكر في "الأخبار" : أن رجلاً قال لموسى عليه السلام : ادعو الله أن يرزقني مالاً فدعا ربه، فأوحى الله إليه يا موسى أقليلاً سألت أم كثيراً.
قال : يا رب، كثيراً، قال : فأصبح الرجل أعمى فغدا على موسى، فتلقاه سبع فقتله، فقال موسى : يا رب سألتك أن ترزقه كثيراً، وأكله السبع، فأوحى الله إليه : يا موسى، إنك سألت له كثيراً، وكل ما كان في الدنيا، فهو قليل، فأعطيته الكثير في الآخرة، فطوبى لمن أبغض الدنيا وما فيها وعمل للآخرة والمولى قبل دنو الأجل وظهور الكسل، جعلنا الله وإياكم من المتيقظين آمين.
﴿أَمَّنْ﴾ بالتشديد على أن أصله أم من، والاستفهام بمعنى التقرير، والمعنى الكافر القاسي الناسي خير حالاً وأحسن مالاً أم من، وهو عثمان رضي الله عنه على الأشهر، ويدخل فيه كل من كان على صفة التزكية، ومن خفف الميم تبع المصحف، لأن فيه ميماً واحدة، فالألف للاستفهام دخلت على من ومعناه أم من.
﴿هُوَ قَـانِتٌ﴾ كمن ليس بقانت.
القنوت : يجيء على معاني : منها : الدعاء فقنوت الوتر دعاؤه، وأما دعاء القنوت، فالإضافة فيه بيانية كما في "حواشي أخي جلبي".
ومنها : الطاعة كما في قوله تعالى :﴿وَالْقَـانِتَـاتِ﴾ (الأحزاب : ٣٥).
ومنها : القيام، فالمصلي قانت ؛ أي : قائم.
وفي الفروع وطول القيام أولى من كثرة السجود لقوله عليه السلام :"أفضل الصلاة طول القنوت" ؛ أي : القيام كما في "الدرر".
وفي الحديث :"مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم".
يعني المصلي الصائم كما في "كشف الأسرار".
والتعقيب : بآناء الليل وبساجداً
٨٠
وقائماً يخصصه ؛ أي : القنوت بالقيام، فالمعنى : أم من هو قائم.
﴿أَمَّنْ هُوَ﴾ ؛ أي : في ساعاته واحده أنى بكسر الهمزة وفتحها مع فتح النون، وهو الساعة وكذا الإنى والإنو بالكسر وسكون النون.
يقال : مضى إنوان وإنيان من الليل ؛ أي : ساعتان.
﴿سَاجِدًا﴾ : حال من ضمير قانت ؛ أي : حال كونه ساجداً.
﴿وَقَآاـاِمًا﴾ : تقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة.
والواو : للجمع بين الصفتين.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
والمراد بالسجود والقيام : الصلاة عبر عنها بهما لكونها من أعظم أركانها.
فالمعنى : قانت ؛ أي : قائم طويل القيام في الصلاة كما يشعر به آناء الليل، لأنه إذا قام في ساعات الليل فقد أطال القيام بخلاف من قام في جزء من الليل.
﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ﴾ : حال أخرى على الترادف أو التداخل أو استئناف ؛ كأنه قيل : ما باله يفعل القنوت في الصلاة، فقيل : يحذر عذاب الآخرة لإيمانه بالبعث.
﴿رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ ؛ أي : المغفرة أو الجنة، لا أنه يحذر ضرّ الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القيام بأداء العبودية ظاهراً أو باطناً من غير فتور ولا تقصير.
﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ﴾ ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها.
﴿رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ لا نعمة ربه.
انتهى.
ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمة ربه لعمله ويحذر عذابه لتقصيره في عمله.
ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً، والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً، وكل منهما كفر، فوجب أن يعتدل كما قال عليه السلام :"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".
كرجه دارى طاعتى ازهيبتش ايمن مباش
وركنه دارى زفيض رحمتش دل برمدار
نيك ترسان شوكه قهر اوست بيرون از قياس
باش بس خوش دل كه لطف اوست افزون ازشمار
ثم في الآية تحريض على صلاة الليل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أحب أن يهوّن الله عليه الموقف يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه كما في "تفسير الحدادي".
قال ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتيت بوضوئه وحاجته، فقال :"سل"، فقالت : أسألك مرافقتك في الجنة، فقال :"أو غير ذلك"، فقلت : هو ذلك.
قال :"فأعن نفسك على كثرة السجود" ؛ أي : بكثرة الصلاة.
قال بعض العارفين : إن الله يطلع على قلوب المستيقظين في الأسحار فيملؤها نوراً، فترد الفوائد على قلوبهم، فتستنير ثم تنتشر العوافي من قلوبهم إلى قلوب الغافلين.
خروسان در سحر كويد كه قم يا أيها الغافل
سعادت آنكسى داردكه وقت صبح بيدارست
﴿قُلْ﴾ بياناً للحق وتنبيهاً على شرف العلم والعمل.
﴿هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ حقائق الأعمال، فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور.
﴿وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ما ذكر، فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كالكافر.
والاستفهام : للتنبيه على كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨


الصفحة التالية
Icon