قال سفيان : لما نزل ﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (الأنعام : ١٦٠) قال عليه السلام :"رب زد لأمتي"، فنزل :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة : ٢٦١)، فقال عليه السلام :"رب زد لأمتي"، فنزل :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسئل النبي عليه السلام ؛ أي : الناس أشد بلاء، قال :"الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه"، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه ذا رقة هون عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض كمن ليس له ذنب.
وقال صلى الله عليه
٨٥
وسلّم "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله، أو في ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله"، "وإن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط، فله السخط.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفي "عرائس البقلي" وصف الله القوم بأربع خصال : بالإيمان والتقوى والإحسان والصبر.
فأما إيمانهم فهو المعرفة بذاته وصفاته من غير استدلال بالحدثان، بل عرفوا الله بالله، وأما تقواهم فتجريدهم أنفسهم عن الكون حتى قاموا بلا احتجاب عنه، وأما إحسانهم فإدراكهم رؤيته تعالى بقلوبهم وأرواحهم بنعت كشف جماله، وأما صبرهم فاستقامتهم في مواظبة الأحوال وكتمان الكشف الكلي.
وحقيقة الصبر أن لا يدعي الديمومة بعد الاتصاف بها ومعنى ﴿أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً﴾ أرض القلوب ووسعها بوسع الحق، فإذا كان العارف بهذه الأوصاف، فله أجران : أجر الدنيا وهو المواجيد والواردات الغريبة وأجر الآخرة، وهو غوصه في بحار الآزال والآباد، والفناء في الذات والبقاء في الصفات.
قال الحارث المحاسبي : الصبر التهدّف لسهام البلاء.
وقال طاهر المقدسي : الصبر على وجوه صبر منه وصبر له وصبر عليه وصبرفيه أهونه الصبر على أوامر الله، وهو الذي بين الله ثوابه، فقال :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ﴾ إلخ.
وقال يوسف بن الحسين : ليس بصابر من يتجرع المصيبة ويبدي فيها الكراهة، بل الصابر من يتلذذ بصبره حتى يبلغ به إلى مقام الرضا.
﴿قُلْ﴾ : روي أن كفار قريش قالوا للنبي عليه السلام : ما يحملك على الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة آبائك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بتلك الملّة، فقال تعالى : قل يا محمد للمشركين :﴿إِنِّى أُمِرْتُ﴾ من جانبه تعالى :﴿إِنْ﴾ ؛ أي : بأن.
﴿أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ حال كوني ﴿مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ ؛ أي : العبادة من الشرك والرياء بأن يكون المقصد من العبادة هو المعبود بالحق لا غير كما في قوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ﴾ (الرعد : ٣٦).
﴿وَأُمِرْتُ﴾ بذلك.
﴿لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ من هذه الأمة ؛ أي : لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن السبق في الدين إنما هو بالإخلاص فيه، فمن أخلص عدّ سابقاً، فإذا كان الرسول عليه السلام متصفاً بالإخلاص قبل إخلاص أمته فقد سبقهم في الدارين إذ لا يدرك المسبوق مرتبة السابق ألا ترى إلى الأصحاب مع من جاء بعدهم والظاهر أن اللام مزيدة، فيكون كقوله تعالى :﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ (الأنعام : ١٤)، فالمعنى : وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زماني ؛ لأن كل نبي يتقدم أهل زمانه في الإسلام والدعاء إلى خلاف دين الآباء، وإن كان قبله مسلمون.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال بعضهم : الإخلاص أن يكون جميع الحركات في السر والعلانيةتعالى وحده لا يمازجه شيء.
وقال الجنيد قدس سره : أمر جميع الخلق بالعبادة وأمر النبي عليه السلام بالإخلاص فيها إشارة إلى أن أحداً لا يطيق تمام مقام الإخلاص سواه.
﴿وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِى * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِه قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا أَلا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ﴾.
﴿قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى﴾ بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك.
﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ؛ أي : أخاف من عذاب يوم القيامة، وهو يوم عظيم لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال بحسب عظم المعصية وسوء الحال.
وفيه زجر عن المعصية بطريق المبالغة ؛ لأنه عليه السلام مع جلالة قدره إذا
٨٦
خاف على تقدير العصيان فغيره من الأمة أولى بذلك.


الصفحة التالية
Icon