ودلت الآية على أن المترتب على المعصية ليس حصول العقاب، بل الخوف من العقاب، فيجوز العفو عن الصغائر والكبائر.
قال الصائب :
محيط از جهره سيلاب كرده راه ميشويد
جه اند يشد كسى باعفو حق از كرد زلتها
﴿قُلِ اللَّهَ﴾ نصب بقوله :﴿أَعْبُدَ﴾ على ما أمرت لا غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
﴿مُخْلِصًا لَّه دِينِى﴾ من كل شوب، وهو بالإضافة ؛ لأن قوله : أعبد إخبار عن المتكلم بخلاف ما في قوله مخلصاً له الدين ؛ لأن الإخبار فيه أمرت وما بعده صلته ومفعوله، فظهر الفرقان كما في "برهان القرآن".
وقال الكاشفي :(باك كننده براى أوكيش خودرا از شرك يا خالص سازنده عمل خودرا ازريا).
وفي "التأويلات النجمية" : قل الله أعبد لا الدنيا ولا العقبى وأطلب بعبادتي المولى مخلصاً له ديني :()
وكل له سؤل ودين ومذهب
فلي أنتمو سؤلي وديني هوا كمو
زبشت آينه روى مراد نتوان ديد
تراكه روى بخلق است ازخداجه خبر
﴿فَاعْبُدُوا﴾ ؛ أي : قد امتثلت ما أمرت به، فاعبدوا يا معشر الكفار ﴿مَا شِئْتُم﴾ أن تعبدوه ﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى.
والأمر للتحديد كما في قوله تعالى :﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ (فصلت : ٤٠).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال في "الإرشاد" : وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب، ولما قال المشركون خسرت يا محمد حيث خالفت دين آبائك.
قال تعالى :﴿قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ﴾ ؛ أي : الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه وإتلاف ما لا بد منه.
وفي "المفردات" : الخسران انتقاص رأس المال يستعمل في المال والجاه والصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعل الله الخسران المبين، وهو بالفارسية :(زيان : والخاسر زيانكار بكو بدرستى كه زيانكاران).
﴿الَّذِينَ﴾.
(آنانندكه)، فالجملة من الموصول والصلة خبر إن.
﴿خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ بالضلال واختيار الكفر لها ؛ أي : أضاعوها وأتلفوها إتلاف البضاعة، فقوله : أنفسهم مفعول خسروا.
وقال الكاشفي :(زيان كردند در نفسهاى خودكه كمراه كشتند).
﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾ بالضلال واختيار الكفر لهم أيضاً أصله أهلين جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذو قرابته كما في "القاموس" ويفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
﴿يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ حين يدخلون النار بدل الجنة حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها.
﴿أَلا ذَالِكَ﴾ الخسران.
﴿هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ حيث استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي :(بدانيد وآكاه باشيدكه آنست آن زيان هويدا كه برهيجكس ازهل موقف بوشيده نماند).
وفي "التأويلات النجمية" : الخاسر في الحقيقة من خسر دنياه بمتابعة الهوى وخسر عقباه بارتكاب ما نهى عنه وخسر مولاه بتولي غيره، ثم شرح خسرانهم بنوع بيان، فقال :
﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ﴾ لهم خبر الظلل والضمير للخاسرين ومن فوقهم حال من ظلل، والظلل جمع ظلة كغرف جمع غرفة وهي سحابة تظل وشيء كهيئة الصفة.
بالفارسية :(سايبان).
وفي "كشف الأسرار" : ما أظلك من فوقك.
والمعنى : للخاسرين ظل من النار كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض حال كون تلك الظل من فوقهم.
والمراد : طباق وسرادقات من النار ودخانها وسمي النار ظلة لغلظها وكثافتها،
٨٧
ولأنها تمنع من النظر إلى ما فوقهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفيه إشعار بشدة حالهم في النار وتهكم بهم ؛ لأن الظلة إنما هي للاستظلال والتبرد خصوصاً في الأراضي الحارة كأرض الحجاز، فإذا كانت من النار نفسها كانت أحرّ ومن تحتها أغمّ.
﴿وَمِن تَحْتِهِمْ﴾ أيضاً.
﴿ظُلَلٌ﴾.
والمراد : إحاطة النار بهم من جميع جوانبهم كما قال تعالى :﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ (الكهف : ٢٩) ؛ أي : فسطاطها، وهو الخيمة شبه به ما يحيط بهم من النار كما سبق في الكهف، ونظير الآية قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ (العنكبوت : ٥٥).
وقوله :﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ (الأعراف : ٤١).
وقال بعضهم : ومن تحتهم ظلل ؛ أي : طباق من النار ودركات كثيرة بعضها تحت بعض هي ظلل للآخرين، بل لهم أيضاً عند تردّيهم في دركاتها كما قال السدي هي لمن تحتهم ظلل.
وهكذا حتى ينتهي إلى القعر والدرك الأسفل الذي هو للمنافقين فالظلل لمن تحتهم، وهي فرش لهم، وكما قال في "الأسئلة المقحمة" كيف سمى ما هو الأسفل ظللاً، والظلال ما يكون فوقاً، والجواب : لأنها تظلل من تحتها، فأضاف السبب إلى حكمه.
﴿ذَالِكَ﴾ العذاب الفظيع هو الذي ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَهُ﴾ في القرآن ليؤمنوا ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليجتنبوا ما يوقعهم فيه.