وفي "الوسيط" يخوف الله به عباده المؤمنين يعني أن ما ذكر من العذاب معد للكفار، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوه فيتقوه بالطاعة والتوحيد.
يا عِبَادِ}.
(اي بندكان من).
وأصله : يا عبادي بالياء.
﴿فَاتَّقُونِ﴾، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
وهذه عظة من الله تعالى بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق جهنم سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة إذ ليس تحت الوجود إلا ما هو مشتمل للحكمة والمصلحة، فمن خاف بتخويف الله إياه من هذا الخسران، فهو عبده عبداً حقيقياً، ومستأهل لشرف الإضافة إليه.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره : أن الخلق يفرون من الحساب، وأنا أقبل عليه، فإن الله تعالى : لو قال لي أثناء الحساب عبدي لكفاني، فعلى العاقل تحصيل العبودية وتكميلها كي يليق يخطاب الله تعالى، ويكون من أهل الحرمة عند الله تعالى ألا ترى أن من خدم ملكاً من الملوك يستحق الكرامة، ويصير محترماً عنده، وهو مخلوق، فكيف خدمة الخالق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
نقل في آخر "فتاوى الظهيرية" : أن الإمام الأعظم أبا حنيفة رحمه الله لما حج الحجة الأخيرة.
قال في نفسه لعلي لا أقدر أن أحجّ مرة أخرى فسأل حجاب البيت أن يفتحوا له باب الكعبة، ويأذنوا له في الدخول ليلاً، ليقوم، فقالوا : إن هذا لم يكن لأحد قبلك ولكنا نفعل ذلك لسبقك وتقدمك في علمك واقتداء الناس كلهم بك، ففتحوا له الباب، فدخل فقام بين العمودين على رجل اليمنى حتى قرأ القرآن إلى النصف وركع وسجد ثم قام على رجل اليسرى وقد وضع قدمه اليمنى على ظهر رجله اليسرى حتى ختم القرآن، فلما سلم بكى وناجى وقال : إلهي ما عبدك هذا العبد الضعيف حق عبادتك، ولكن عرفك حق معرفتك، فهب نقصان خدمته لكمال معرفته، فهتف هاتف من جانب البيت يا أبا حنيفة، قد عرفت وأخلصت المعرفة، وخدمت فأحسنت الخدمة، فقد غفرنا لك، ولمن اتبعك وكان على مذهبك إلى قيام الساعة.
ثم إن مثل هذه العبودية ناشئة عن التقوى والخوف من الله تعالى ومطالعة هيبته وجلاله، وكان عليه السلام يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
والأزيز : الغليان.
وقيل : صوته والمرجل
٨٨
قدر من نحاس.
كذا نقل مثل ذلك عن إبراهيم عليه السلام، فحرارة هذا الخوف إذا أحاطب بظاهر الجسم، وباطنه سلم الإنسان من الاحتراق، وإذا مضى الوقت تعذر تدارك الحال، فليحافظ على زمان الفرصة :
وحشى فرصت جوتير از جشم بيرون جسته است
تاتوزه مى سازى اى غافل كمان خويش را
﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌا ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ﴾.
(الاجتناب : بايك سو شدن).
يقال : اجتنبه بعد عنه.
والطاغوت : البالغ أقصى غاية الظغيان، وهو تجاوز الحدّ في العصيان، فلعوت من الطغيان بتقديم اللام على العين، لأن أصله طغيوت بني للمبالغة كالرحموت والعظموت.
ثم وصف به للمبالغة في النعت كأن عين الشيطان طغيان ؛ لأن المراد به هو الشيطان وتاؤه زائدة دون التأنيث كما قال في "كشف الأسرار" : التاء ليست بأصلية، هي في الطاغوت كهي في الملكوت والجبروت واللاهوت والناسوت والرحموت والرهبوت.
ويذكر ؛ أي : الطاغوت ويؤنث كما في "الكواشي"، ويستعمل في الواحد والجمع كما في "المفردات" و"القاموس" قال الراغب : وهو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفي "القاموس" : الطاغوت اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومرده أهل الكتاب.
وقال في "كشف الأسرار" : كل من عبد شيئاً غير الله، فهو طاغغٍ ومعبوده : طاغوت.
وفي "التأويلات النجمية" : طاغوت كل أحد نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه وعانق رضا مولاه ورجع إليه بالخروج عما سواه رجوعاً بالكلية.
وقال سهل : الطاغوت : الدنيا وأصلها الجهل وفرعها المآكل والمشارب وزينتها التفاخر وثمرتها المعاصي وميراثها القسوة والعقوبة : والمعنى بالفارسية :(و آنانكه بيكسو رفتند ازشيطان يابتان يا كهنه يعني از هرجه بدون خداى تعالى برستند ايشان بر طرف شدند).
﴿أَن يَعْبُدُوهَا﴾ بدل اشتمال منه، فإن عبادة غير الله عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها.
قال في "بحر العلوم" : وفيها إشارة إلى أن المراد بالطاغوت ها هنا الجمع.
﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ وأقبلوا عليه معرضين عما سواه إقبالاً كلياً.


الصفحة التالية
Icon