قال في "البحر" : واعلم أن المراد باجتناب الطاغوت الكفر بها وبالإنابة إلى الله الإيمان بالله كما قال تعالى :﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (البقرة : ٢٥٦).
وقدم اجتناب الطاغوت على الإنابة إلى الله كما قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله على وفق كلمة التوحيد لا اله إلا الله حيث قدم نفي وجود الإلهية على إثبات الألوهيةتعالى.
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ بالثواب والرضوان الأكبر على ألسنة الرسل بالوحي في الدنيا، أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون، وبعد ذلك.
وقال بعض الكبار : لهم البشرى بأنهم من أهل الهداية والفضل من الله، وهي الكرامة الكبرى.
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه﴾.
فيه تصريح بكون التبشير من لسان الرسول عليه السلام، وهو تبشير في الدنيا.
وأما تبشيرالملك فتبشير في الآخرة، كما قال تعالى :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ﴾ (يونس : ٦٤).
وبالجملة تبشير الآخرة مرتب على تبشير الدنيا، فمن استأهل الثاني استأهل الأول.
والأصل : عبادي بالباء فحذفت.
قيل : إن الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير حين سألوا
٨٩
أبا بكر رضي الله عنه، فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
حكاه المهدوي في "التكملة"، فيكون المعنى : يستمعون القول من أبي بكر، فيتبعون أحسنه، وهو قول لا إله إلا الله، كما في "كشف الأسرار".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وقال في "الإرشاد" ونحوه ؛ أي : فبشر، فوضع الظاهر موضع ضميرهم تشريفاً لهم بالإضافة ودلالة على أن مدار اتصافهم بالاجتناب والإنابة كونهم نقاداً في الدين يميزون الحق من الباطل، ويؤثرون الأفضل فالأفضل.
انتهى.
وهذا مبني على إطلاق القول وتعميمه جرياً على الأصل.
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون المعنى : يستمعون القول مطلقاً قرآناً كان، أو غيره، فيتبعون أحسنه بالإيمان والعمل الصالح، وهو القرآن ؛ لأنه تعالى قال في حقه :﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ (الزمر : ٢٣).
كما سيأتي في هذه السورة.
وقال الراغب في "المفردات" : فيتبعون أحسنه ؛ أي : الأبعد من الشبهة :(ودر بحر الحقائق فرموده كه قول اعم است ازسخن خدا وملك وانسان وشيطان ونفس.
اما انسان حق وباطل ونيك وبد كويد.
وشيطان بمعاصى خواند.
ونفس بآرزوها ترغيب كند.
وملك بطاعت نمايد.
وحضرت عزت بخود خواند كما قال :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ (المزمل : ٨) بس بندكان خالص آنانندكه احسن خطاب راكه خطاب رب الأرباب لست اززبان حضرت رسول استماع نموده اند بيروى كنند).
وأيضاً : إن الألف واللام في القول للعموم، فيقتضي أن لهم حسن الاستماع في كل قول من القرآن وغيره ولهم أن يتبعوا أحسن معنى يحتمل كل قول اتباع درايته والعمل به، وأحسن كل قول ما كان من الله، أو يهدي إلى الله، وعلى هذا يكون استماع قول القوّال من هذا القبيل كما في "التأويلات النجمية".
وقال الكلبي : يجلس الرجل مع القوم فيستمع الأحاديث محاسن ومساوىء فيتبع أحسنها، فيأخذ المحاسن ويحدث بها ويدع مساوئها :(ودر لباب كفته كه مراد ازقول سخنانست كه در مجالس ومحافل كذرد وأهل متابعت احسن آن اقوال اختيار ميكنند در ايشان ودر امثال آمده).
خذ ما صفا دع ما كدر
قول كس جون بشنوى دورى تأمل كن تمام
صاف را بردار ودردى را رها كن والسلام
(وكفته اند استماع قول واتباع احسن آن عمومي دارد ومرد ازقول قرآنست واحسن، أو محكم باشد دون منسوخ وعزيمت دون رخصت.
وكفته أند كه در قرآن مقابح اعدا وممادح أوليا ست ايشان متابعت أحسن مينما يند كه مثلا طريقه موسى است عليه السلام دون سيرت فرعون).
وعلى هذا.
وفي "كشف الأسرار" : مثال هذا الأحسن في الدين أن ولي القتيل إذا طالب بالدم، فهو حسن وإذا عفا ورضي بالدية، فهو أحسن.
ومن جزى بالسيئة السيئة مثلها، فهو حسن وإن عفا وغفر، فهو أحسن.
وإن وزن أو كال، فهو حسن وإن أرجح، فهو أحسن.
وإن اتزن وعدل، فهو حسن وإن طفف على نفسه، فهو أحسن.
وإن رد السلام فقال : وعليكم السلام، فهو حسن، وإن قال : وعليكم السلام ورحمة الله، فهو أحسن.
وإن حج راكباً، فهو حسن، وإن فعله راجلاً، فهو أحسن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وإن غسل أعضاءه في الوضوء مرة مرة، فهو حسن، وإن غسلها ثلاثاً ثلاثاً، فهو أحسن.
وإن جزي من ظلمه بمثل مظلمته، فهو حسن وإن جازاه بحسنة، فهو أحسن.
وإن سجد، أو رجع ساكتاً، فهو جائز، والجائز حسن، وإن فعلهما مسبحاً، فهو أحسن.
ونظير هذه
٩٠
الآية قوله عز وجلّ لموسى عليه السلام :﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ (الأعراف : ١٤٥).
وقوله :﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾.
انتهى ما في "الكشف".


الصفحة التالية
Icon