وهذا معنى ما قال بعضهم : يستمعون قول الله، فيتبعون أحسنه ويعملون بأفضله، وهو ما في القرآن من عفو وصفح واحتمال على أذى، ونحو ذلك فالقرآن كله حسن، وإنما الأحسن بالنسبة إلى الآخذ والعامل.
قال الإمام السيوطي رحمه الله في "الاتقان" : اختلف الناس هل في القرآن شيء أفضل من شيء، فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله وبعض الأئمة الأعلام إلى المنع ؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه.
وذهب آخرون من المحققين، وهو الحق كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره، فقل هو الله أحد أفضل من تبت يدا أبي لهب ؛ لأن فيه فضيلة الذكر، وهو كلام الله وفضيلة المذكور، وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية.
وسورة ﴿تُبْتُ﴾ فيها فضيلة الذكر فقط، وهو كلام الله تعالى.
والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "جوهر القرآن" : كيف يكون بعض الآيات والسور أشرف من بعض مع أن الكل كلام الله، فاعلم نوّرك الله بنور البصيرة وقلد صاحب الرسالة عليه السلام، فهو الذي أنزل عليه القرآن.
وقال :"يس قلب القرآن"، وفاتحة الكتاب سور القرآن، وآية الكرسي سيدة القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن".
ومن توقف في تعديل الآيات أول قوله عليه السلام أفضل سورة وأعظم سورة أراد في الأجر والثواب، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض، فالكل في فضل الكلام واحد، والتفاوت في الأجر لا في كلام الله من حيث هو كلام الله القديم القائم بذاته.
واعلم أن استماع القول عند العارفين يجري في كل الأشياء، فالحق تعالى يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى، ولا يتحقق بحقيقة سماعه إلا أهل الحقيقة وعلامة سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله من جهة التكليف المتوجه على الإذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم، والذكر والثناء على الحق تعالى، والموعظة الحسنة والقول والتصامم عن سماع الغيبة والبهتان والسوء من القول والخوض في آيات الله والرفث والجدال، وسماع القيان، وكل محرم حجر الشارع عليه سماعه، فإذا كان كذلك كان مفتوح الأذن إلى الله تعالى، وفي المثنوي :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
بنيه آن كوش سر كوش سراست
تانكردد اين كران باطن كراست
وللفقير :
بنيه بيرون آر از كوش دلت
ميرسد تا صوت از هر بلبلت
﴿أولئك﴾ المنعوتون بالمحاسن الجميلة، وهو مبتدأ خبره قوله :﴿الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّهُ﴾ للدين الحق والاتصاف بمحاسنه.
﴿وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ أصحاب العقول السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم.
وفي الكلام دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها، يعني أن لكسب العبد مدخلاً فيها بحسب جري العادة.
وفيه إشارة إلى أن أولئك القوم هم الذين عبروا عن قشور الأشياء، ووصلوا إلى الباب حقائقها.
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ﴾.
بيان لأحوال عبدة الطاغوت
٩١
بعد بيان أحوال المجتنبين عنها.
والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على محذوف دل عليه الكلام، ومن شرطية والمفهوم من "كشف الأسرار" و"تفسير الكاشفي" كونها موصولة وحق بمعنى وجب وثبت، وكلمة العذاب قوله تعالى لإبليس :﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٥).
وكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار.
والفاء فيه فاء الجزاء.
ثم وضع موضع الضمير من في النار لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، وأن اجتهاده عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ؛ أي : تخليصهم، فإن الأنقاذ التخليص من ورطة كما في "المفردات".
والمعنى : أنت يا محمد مالك أمر الناس، فمن حق ؛ أي : وجب وثبت عليه من الكفار عدلاً في علم الله تعالى كلمة العذاب، فأنت تنقذه فالآية جملة واحدة من شرط وجزاء.
وبالفارسية :(آيا هركسى يا آنكسى كه واجب شد برو كلمة وعيد آيا توا اي محمد مى رهانى آنرا كه در دوزخ باشد يعنى ميتوانى كه أورا مؤمن سازى واز عذاب باز رهانى يعنى اين كار بدست تو نيست كه دوز خيانرا بازر هانى همجو ابو لهب وبسرش عقبه وغير آن).
وفيه إشارة إلى أن من حق عليه في القسمة الأولى أن يكون مظهراً لصفات قهره إلى الأبد لا ينفعه شفاعة الشافعين، ولا يخرجه من جهنم سخط الله وطرده وبعده جميع الأنبياء والمرسلين، وإنما الشفاعة للمؤمنين بدليل قوله تعالى :﴿وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ (الأعراف : ١٠٣).
وحيث كان المراد بمن في النار الذين قيل في حقهم :﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ استدرك بقوله تعالى :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨