﴿أَلَمْ تَرَ﴾.
(آيا نمى بينى يا محمد)، أو يا أيها الناظر.
﴿أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ﴾ من تحت العرش ﴿مَآءً﴾ هو المطر.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال :"المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس"، يعني : كل ماء في الأرض نهراً، أو غيره، فهو من السماء ينزل منها إلى الغيم، ثم منه إلى الصخرة يقسمه الله بين البقاع، ﴿فَسَلَكَهُ﴾.
يقال : سلك المكان وسلك غيره فيه، وأسلكه : أدخله فيه ؛ أي : فأدخل ذلك الماء ونظمه.
﴿يَنَـابِيعَ فِى الأرْضِ﴾ ؛ أي : عيوناً ومجاري كالعروق في الأجساد فقوله :﴿يَنَـابِيعَ﴾ نصب بنزع الخافض.
وقد ذكر الخافض في قوله :﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾ (القصص : ٣٢).
وقوله :﴿فِى الأرْضِ﴾ بيان لمكان الينابيع كقولك لصاحبك : أدخل الماء في جدول المبطخة في البستان، وفيه أن ماء العين هو المطر يحبسه في الأرض، ثم يخرجه شيئاً فشيئاً، فالينابيع جمع ينبوع، وهو يفعول من نبع الماء ينبع مثلثة ونبوعاً خرج من العين.
والينبوع : العين التي يخرج منها الماء.
والينابيع : الأمكنة التي ينبع ويخرج منها الماء.
﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾.
(بس بيرون مى آرد بدان آب)، ﴿زَرْعًا﴾ هو في الأصل مصدر بمعنى الإنبات عبر به عن المزروع ؛ أي : مزروعاً.
﴿مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ أصنافه إضافة من بر وشعير وغيرهما، وكيفاته من الألوان والطعوم وغيرهما.
وكلمة ثم للتراخي في الرتبة أو الزمان، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال في "المفردات" : اللون معروف وينطوي على الأبيض والأسود وما يركب منهما.
ويقال : تلوّن إذا اكتسى لوناً غير اللون الذي كان له ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع.
يقال : فلان أتى بألوان من الأحاديث، وتناول كذا لوناً من الطعام.
انتهى.
﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ؛ أي : يتم جفافه حين حان له أن يثور عن منبته يقال : هاج يهيج هيجاً وهيجاناً وهياجاً بالكسر : ثار وهاج النبت
٩٣
يبس، كما في القاموس.
وبالفارسية :(بس خشك ميشود آن مزروع).
﴿فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا﴾ من يبسه بعد خضرته ونضرته.
وبالفارسية :(بس مى بينى آنرا زرد شده بعد ازتازه كى وسبزى).
قال الراغب : الصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد.
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ ؛ أي : الله تعالى ﴿حُطَـامًا﴾، فتاتاً متكسراً كأن لم يغن بالأمس.
وبالفارسية :(ريزه ريزه ودرهم شكسته) يقال : تحطم العود إذا تفتت من اليبس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج.
﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ المذكور مفصلاً.
﴿لَذِكْرَى﴾ لتذكيراً عظيماً.
(والتذكير : ياد دادن).
﴿لاوْلِى الالْبَـابِ﴾ : أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل وتنبيهاً لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنها :
بود حال دنيا جو آن سبزه زار
كه بس تازه بينى بفصل بهار
جو بروى وزد تند باد خزان
يكى برك سبزى نيابى ازان
قال في "كشف الأسرار" : الإشارة في هذه الآية إلى أن الإنسان يكون طفلاً، ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً، ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم آخره يخترم، ويقال : إن الزرع ما لم يؤخذ منه الحب الذي هو المقصود منه لا يكون له قيمة كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه لا يكون له قدر ولا قيمة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إلخ، إلى إنزال ماء الفيض الروحاني من سماء القلب.
﴿فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ﴾ الحكمة ﴿فِى الأرْضِ﴾ البشرية.
﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا﴾، من الأعمال البدنية.
﴿مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ إلخ.
يشير إلى أعمال المرائي تراها مخضرة على وفق الشرع، ثم تجف من آفة العجب والرياء.
﴿فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا﴾ لا نور له.
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ من رياح القهر أذهبت عليه ﴿حُطَـامًا﴾ لا حاصل له إلا الحسرة.
وقوله :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ إلخ.
إشارة إلى أن السالك إذا جرى على مقتضى عقله وعلمه يظهر منه آثار الاجتهاد، ثم إذا ترقى إلى مقام المعرفة تضمحل منه حالته الأولى، ثم إذا بدت أنوار التوحيد استهلكت الجملة كما قالوا :()
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأنواره أنوار تلك الكواكب
فالتوحيد كالشمس ونورها، فكما أنه بنور الشمس تضمحل أنوار الكواكب، فكذا بنور التوحيد تتلاشى أنوار العلوم والمعارف ويصير حالها إلى الأفول والفناء، ويظهر حال أخرى من عالم البقاء.


الصفحة التالية
Icon