جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال الحسين النوري رحمه الله : قسوة القلب بالنعم أشد من قسوته بالشدة، فإنه بالنعمة يسكن وبالشدة يذكر.
وقال : من همّ بشيء مما أباحه العلم تلذذاً عوقت بتضييع العمر وقسوة القلب، فليبك على نفسه من صرف عمره وضيع وقته، ولم يدرك مراتب المنشرحين صدورهم، وبقي مع القاسين قلوبهم نسألك اللهم الحفظ والعصمة.
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾.
هو القرآن الكريم الذي لا نهاية لحسنه ولا غاية لجمال نظمه وملاحة معانيه، وهو أحسن مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين وأكمله وأكثره إحكاماً.
وأيضاً : أحسن الحديث لفصاحته وإعجازه.
وأيضاً : لأنه كلام الله، وهو قديم وكلام غيره مخلوق محدث.
وأيضاً : لكونه صدقاً كله إلى غير ذلك.
سمي حديثاً ؛ لأن النبي عليه السلام كان يحدّث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه، فلا يدل على حدوث القرآن، فإن الحديث في عرف العامة الخبر والكلام.
قال في "المفردات" كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، يقال له حديث.
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملوا ملة، فقالوا له عليه السلام : حدثنا حديثاً أو لو حدثتنا : يعني :(جه شودكه براى ماسخنى فرمايند وكام طوطيان أرواح مستمعان را بحديث ازل شكر بار وشيرين كردانند سرمايه حيات ابد اهل ذوق را دريك حكايت ازلب شكر فشان يست).
فنزلت هذه الآية.
والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
﴿كِتَـابًا﴾ بدل من أحسن الحديث.
﴿مُّتَشَـابِهًا﴾ معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز.
﴿مَّثَانِيَ﴾ صفة أخرى لكتاباً ووصف الواحد، وهو
٩٧
الكتاب بالجمع، وهو المثاني باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات والإنسان عروق وعظام وأعصاب، وهو جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه، أو لأنه ثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في نعته لا يخلق على كثرة الترداد ؛ أي : لا يزول رونقه ولذة قراءته واستماعه من كثرة ترداده على ألسنة التالين وتكراره على آذان المستمعين وأذهان المتفكرين على خلاف ما عليه كلام المخلوق، وفي القصيدة البردية :()
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
فلا تعد ولا تحصى عجائبها
ولا تسام على الإكثار بالسأم
أي لا تقابل آيات القرآن مع الإكثار بالملال.
وفي "المفردات" وسمي سور القرآن مثاني ؛ لأنها تثنى على مرور الأيام وتكرر، فلا تدرس ولا تنقطع دروس سائر الأشياء التي تضمحل وتبطل على مرور الأيام، وإنما تدرس الأوراق.
كما روي أن عثمان رضي الله عنه حرق مصحفين لكثرة قراءته فيهما.
ويصح أن يقال للقرآن : مثاني لما يثنى ويتجدد حالاً فحالاً من فوائده، كما جاء في نعته، ولا تنقضي عجائبه.
ويجوز أن يكون ذلك من الثناء تنبيهاً على أنه أبداً يظهر منه ما يدعو إلى الثناء عليه، وعلى من يتلوه ويعلمه ويعمل به، وعلى هذا الوجه وصفه بالكرم في قوله :﴿إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ﴾ ()وبالمجد في قوله :﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ﴾ (البروج : ٢١)، أو هو جمع مثنى بفتح الميم وإسكان الثاء مفعل من الثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى :﴿ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ (الملك : ٤) ؛ أي : كرة بعد كرة أو جمع مثنى بضم الميم وسكون الثاء، وفتح النون ؛ أي : مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز حتى قال بعضهم لبعض : ألا سجدت لفصاحته، ويجوز أن يكون بكسر النون ؛ أي : مثن عليّ بما هو أهله من صفاته العظمى.
قال ابن بحر : لما كان القرآن مخالفاً لنظم البشر ونثرهم حول أسمائه بخلاف ما سموا به كلامهم على الجملة والتفصيل، فسمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً، وكما قالوا : قصيدة وخطبة ورسالة.
قال : سورة، وكما قالوا : بيت.
قال : آية وكما سميت الأبيات لاتفاق أواخرها قوافي سمى الله القرآن لاتفاق خواتيم الآي فيه مثاني.
وفي "التأويلات النجمية" : القرآن كتاب متشابه في اللفظ مثاني في المعنى من وجهين :
أحدهما : أن لكل لفظ منه معاني مختلفة بعضها يتعلق بلغة العرب وبعضها يتعلق بإشارات الحق وبعضها يتعلق بأحكام الشرع كمثل الصلاة، فإن معناها في اللغة الدعاء.
وفي أحكام الشرع عبارة عن هيئات وأركان وشرائط وحركات مخصوصة بها.
وفي إشارة الحق تعالى هي الرجوع إلى الله كما جاء روحه من الحضرة بالنفخة الخاصة إلى القالب، فإنه عبر على القيام الذي يتعلق بالسماوات، ثم على الركوع الذي يتعلق بالحيوانات ثم على السجود الذي يتعلق بالنباتات، ثم على التشهد الذي يتعلق بالمعادن، فبالصلاة يشير الله عز وجلّ إلى رجوع الروح إلى حضرة ربه على طريق جاء منها، ولهذا قال النبي عليه السلام :"الصلاة معراج المؤمن".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨


الصفحة التالية
Icon