منها : أنه لما عقب أحسنية القرآن بكونه متشابهاً ومثاني رتب عليه اقشعرار جلود المؤمنين إيماء إلى أن ذلك إنما يحصل بكونه مردداً ومكرراً ؛ لأن النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة وأكثر جموداً وإباء عنه فلا تلين شكيمتهاولا تنقاد طبيعتها إلا أن يلقى إليها النصائح عوداً بعد بدء ولهذا كان عليه السلام يكرر وعظه ثلاثاً أو سبعاً.
ومنها : أن الاقشعرار أمر مستجلب للرحمة قال عليه السلام :"إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه" ؛ أي : تساقطت :"كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" وعنه عليه السلام :"إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار"، ولما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى إن خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.
قال مسروق : إن المخافة قبل الرجاء، فإن الله تعالى خلق جنة وناراً، فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار.
ومنها : أن غاية ما يحصل للعابدين من الأحوال المذكورة في هذه الآية من الاقشعرار والخشية والاطمئنان.
قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقلهم، والغشيان عليهم، وإنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عبد الله بن الزبير.
قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه : كيف كان أصحاب رسول الله يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن، قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
قال : فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروي : أن ابن عمر رضي الله عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط، فقال : ما بال هذا.
قالوا : أنه إذا قرىء عليه القرآن، أو سمع ذكر الله سقط، فقال ابن عمر رضي الله عنه إنا لنخشى الله، وما نسقط.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كذا في التفاسير نحو "كشف الأسرار" و"المعالم" و"الوسيط" و"الكواشي" وغيرها.
يقول الفقير : لا شك أن القدح والجرح، إنما هو في حق أهل الرياء والدعوى، وفي حق من يقدر على ضبط نفسه كما أشار عليه السلام بقوله :"من عشق وعف وكتم ثم مات مات شهيداً".
فإن من غلب على حاله كان الأدب له أن لا يتحرك بشيء لم يؤذن فيه، وأما من غلب عليه الحال وكان في أمره محقاً لا مبطلاً، فيكون كالمجنون، حيث يسقط عنه القلم
١٠٠
فبأي حركة تحرك كان معذوراً فيها، فليس حال أهل البداية والتوسط كحال أهل النهاية، فإن ما يقدر عليه أهل النهاية لا يقدر عليه من دونهم، وكأن الأصحاب رضي الله عنهم، ومن في حكمهم ممن جاء بعدهم راعوا الأدب في كل حال ومقام بقوة تمكينهم، بل لشدة تلوينهم في تمكينهم، فلا يقاس عليهم من ليس له هذا التمكين، فرب أهل تلوين يفعل ما لا يفعله أهل التمكين، وهو معذور في ذلك لكونه مغلوب الحال ومسلوب الاختيار، فليجتهد العاقل في طريق الحق بلا رياء ودعوى وليلازم الأدب في كل أمر متعلق بفتوى أو تقوى، وليحافظ على ظاهره وباطنه من الشين ومما يورث الرين والغين.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ﴾ الهمزة : للإنكار والفاء : للعطف على محذوف.
ومن شرطية، والخبر محذوف.
والاتقاء بالفارسية :(حذر كردن وخودرا نكاه داشتن).
يقال : اتقى فلان بكذا إذا جعله وقاية لنفسه والتركيب يدل على دفع شيء عن شيء يضره، وتقدير الكلام أكل الناس سواء فمن شأنه، وهو الكافر أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه.
﴿سُواءِ الْعَذَابِ﴾ ؛ أي : العذاب السيِّىء الشديد : يعني (زبانه آتش)، كما في "تفسير الفارسي" للكاشفي.
﴿يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ لكون يده التي بها كان يتقي المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن، وهو المؤمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه.


الصفحة التالية
Icon